باسل مطر- مشروع سلامتك
لست ممن يروج لنظريات المؤامرة, ولم أؤمن يوما بوجود مخططات عالمية لإضعاف العرب, أو تدمير سوريا الصمود والتصدي, وأدرك أن السياسة مصالح, وأن التجارة مصالح, وأن المصالح تتغير, ولا شيء ثابت في هذين الميدانيين. لكن يحلو لي أحيانا أن ألوم التكنولوجيا على ما وصلنا إليه, أو أن أحملها مسؤولية أزمات بعينها, وهو أمر مزاجي تماما. فلا تأخذوا كلامي على أنه نظرية ثابتة, بل وجهة نظر وحسب. ولعل التكنولوجيا تسامحني على تجنيّ عليها أحيانا, لكنها ترافقني في هذه الثورة منذ عامين ونيف, وأجد نفسي في مكان يؤهلني لألقي عليها اللوم.
لا تخلو أدبيات واحدة من شبكات التواصل الاجتماعي, أو الإعلام الاجتماعي, من إشارة إلى التقريب بين الناس, وفتح أفاق للتواصل بين الشعوب والمجموعات البشرية والأجناس والأعراق والنساء والرجال لتعميق الفهم المتبادل وتوطيد الأواصر الإنسانية بينهم. ويذكر الكثيرون كيف كان مارك زوكربرغ يتباهي بالدور الذي لعبه فيسبوك في الثورة المصرية, التي شيعها العالم بعد أن أعدمها مرسي والسيسي معا فكأنها لم تبرح صفحات فيسبوك التي أطلقت شرارتها. لا شك أن بعضا من هذا الهدف قد تحقق, ولا دليل على ذلك, لكن لا دليل أيضا على عكسه. هناك جزء أكثر قتامة في الصورة التي ترسمها هذه الشركات عن نفسها, أو التي ترسخت في مخيلات الناس, ولن أقول عقولهم. فالصورة ليست بالإشراق الذي نتخيله.
في وسائل الإعلام التقليدية, تنتشر الأخبار السيئة بسرعة. فأخبار الحروب والزلازل والفضائح السياسية والجنسية, والجرائم والسرقات تتصدر عناوين الأخبار دائما وفي كل المحطات والصحف والمجلات. ويقول المثل الإنكليزي بأن الأخبار السيئة تسافر سريعا, وقد أثبت الإعلام التقليدي صحة هذه المقولة بل تبناها وجعل منها شعارا له, وأصبحت نشرات الأخبار نشرات للكوارث وحسب! أو أصبح معظمها كذلك على الأقل.
في شبكات التواصل الاجتماعي تسافر الأفكار السيئة بسرعة, وتنتقل كالوباء. فهي تجذب الذين تناسب عقولهم, وتشد المراقبين الذين يرصدونها في مؤسسات الاستخبارات ومراكز الأبحاث, التي تمولها الحكومات, وفي مراصد كثيرة لا يعرف من وراءها.
يحلو لي أن أشبه فضاء تلك الشبكات بالمحيط الذي يعج بالأسماك من كل حجم ونوع. حيتان, وقروش وأسماك ذهبية ملونه جميلة. كم مره شاهدتَ برنامجا عن تلك الأسماك الذهبية؟ لا تخبرني فأنا أعرف الجواب! وكم مرة شاهدتَ برامجا عن القرش المفترس؟ لا يمكن ضبط إيقاع المحيط الكبير وفق معايير العدالة أو الحقيقة أو الجمال أو النقي الذي نراه على سطحه أو في أفلام الكابتن كوستو, ولا يمكن أيضا ضبط أيقاع الفضاء الاجتماعي الافتراضي. للمحيط دورة دقيقة دون شك, أساسها شريعته التي يأكل فيها القوي الضعيف, ويتغذى فيها سمك على آخر ونبات على أخر, فتكتمل الدورة تلك. وكذلك فإن الفضاء الاجتماعي الافتراضي الذي خلقته شبكات التواصل تلك, رغم كل القوانين التي تحاول نظمه دون أية جدوى, يبقى أشبه بالمحيط, لا ينضح إلا بالغموض لكنه يقوفه قبحا ولا تحكمه دورة الحياة.
عاش السوريون في السنوات المنصرمة حقيقة مرة بين حقائق كثيرة أكثر مرارا. لم يأتيهم هذا الفضاء الذي أزال الحدود بكل أنواعها بجديد, بل زاد فرقتهم, وأصبح مكانا يغص بالقبح, والدم, والكراهية, ليس بسبب غياب الأشياء الجميلة فيه فهي هنا ومنها هذا المنبر, بل لكثرة القبح وحسب, ولأن العالم لم يتعود انتظار الأخبار الجميلة, فقد وجد ضالته معنا!
لم تفلح منتديات فيسبوك ولا تويتر ولا يوتيوب بجمعهم, بل فرقتهم, وكانت بمثابة مكان لا رقابة فيه, يبثون فيه كل ما هو رديء. فمن صفحة تهدر دم فلان, إلى أخرى تشيطن الطائفة الأخرى, إلى واحدة تصف الثوار بالإرهابيين, وكلها تتدثر بدثار تعتقد أنه جميل. الوطن, والدين, و …
قد يكون من المبالغة اتهام شبكات التواصل الاجتماعي بالفشل, فهي أدوات في نهاية المطاف, وهي تسير وفق مشيئة مستخدميها, وهذا صحيح, لكن غياب الضوابط فيها جعل منها غابة أول من يظهر فيها هم المفترسون, وأول من يستغلها المتربصون.
فرقت الأزمة السوريين, بين موال ومعارض, وإسلامي وعلماني, وكافر ومؤمن ووطني وخائن, وأتاح لهم الفضاء الفيسبوكي المساحة للتعبير عن الاختلاف والخلاف, لكنهم جعلوا منه ساحة عرتهم جميعا دون أن تقرِب بينهم. لم تزدنا يا فيسبوك إلا فرقة.
مشروع سلامتك