روعة الشامي
تداولت منذ بداية الثورة السورية قصص التعذيب والانتهاكات الجسيمة التي تعرّض ويتعرض لها المعتقلون والمعتقلات داخل أقبية وسجون النظام السوري، لكننا غفلنا عن ذكر أوضاعهم وحالاتهم الإنسانيّة في تلك المراحل، والتي هي أشدّ وقعاً في نفوسهم من حالات التعذيب الجسدي أو حتّى التعذيب النفسي الذي تعرضوا له.
وهنا سأخصّ بالذكر المعتقلات السوريات، تلكم النسوة اللواتي قدمن الكثير خلال الثورة السورية، وكنّ ندّاً قويّاً إلى جانب الرجال في عملهن الإغاثيّ أو الطبيّ أو الإعلاميّ. وهنا لن نتحدّث عن الأفرع الأمنيّة والوحشيّة التي تشهدها المعتقلات فيها، وإنمّا عن مرحلة السجن المدني.
تبدأ مرحلة السجن المدني بعد أن يتم تحويل المعتقلة من أحد الأفرع الأمنية إلى “سجن عدرا المركزي- سجن دمشق” وهو مكان تجمّع المعتقلات من كافة الأفرع في المدن السورية. مرحلة السجن المدني أشبه ما تكون برحلة عذاب قاسية تبدأ بفقدان الأمل. فبعد عرضها على قاضي محكمة الإرهاب وتوقيفها من قبله، هنا تستعد المعتقلة لحياة جديدة مختلفة وقاسية بين جدران الزنزانة العفنة، بانتظار معجزة سماوية أو مبادلة قريبة تخرجها إلى نور الحريّة من جديد.
لا يوجد داخل مهاجع السجن إلاّ نمط حياة واحدة، طعام وشراب ونوم، أمّا زيارات الأهل أيام الأحد والأربعاء من كل أسبوع فهي وجع آخر. والأكثر إيلاماً هنّ تلك النسوّة والصبايا اللواتي لا زيارة لهنّ؛ ويالِ حالها المأساوي تلك التي لا زيارة لها، تلك المنسيّة من أهلها وأصحابها، من هجر أهلها أو مات تحت القصف، من تخلّت عائلتها عنها لأنّها مُعتقلة بتهمة الإرهاب، أو من طلّقها زوجها على شباك السجن لذات السبب حيناً، وخشيّة اعتقاله هو الآخر حيناً آخر!
أكثر من نصف المعتقلات السوريات هنّ أمهات، أمهات لا تفارق مخيلة الواحدة منهنّ صورة أطفالها: ماذا يفعلون؟ ماذا يأكلون؟ من يعتني بهم في غيابي؟ هل يذهبون للمدرسة؟ ولا تنتهي الأسئلة حتّى بانتهاء دقائق وساعات اليوم. وفي الوقت ذاته لا يغيب في حديثها ذكرهم أو التحدث عنهم، ووصفهم بأجمل الأوصاف والدعاء لهم.
حالة لا أقسى منها سوى حالة أم اعتقلت مع طفلها، فما ذنب ذلك الطفل أن يعيش طفولة مأسورة، طفولة معتقلة مرتين؛ مرّة باعتقال أمّه التي تحمله وتعتني به، ومرّة باعتقاله إلى جانبها وسجن طفولته! ما ذنب تلك الأم التي ولدت داخل السجن دون طبيب أو مشفى، ولا حاضنة تمنح ابنتها حقّ الحياة؟ لتموت الطفلة بعد أيام وأمّها لا ترى قبرها حتّى!
أمّا تلك التي تشتاق أمها وأباها وأخوتها، تبكي كلّما رأت سيدة بعمر أمها أو سمعت باسم يشبه اسم أختها.. لا يفارقها هاجس الخوف عليهم، ومنهم أحياناً! فهي تخاف من ردّة فعلهم حين عودتها: هل سينفرون منها خشية المجتمع الذي يعتبرها معتقلة إرهاب؟ أم سيظنون أنّها قد تعرّضت للاغتصاب، فتكون عاراً عليهم ويتبرؤون منها؟
في سجن عدرا للنساء تعيش المعتقلات تخيلات وعذابات.. يعشنها بحلم وأمل بانتظار فجر يومٍ عظيم يسجّل فيه الحلم خروجهنّ من قفص الظلم والضيم؛ فآمالهنّ بسيطة كتلك الحياة التي يعشنها، بحلم وردي أو بتنجيم بصّارة من بين المعتقلات عشقن كذبها عليهنّ لأنّ الكذب بحدّ ذاته كان بالنسبة لهنّ أملاً.
علماً أنّ للأخبار المُسرّبة من الزيارات حديث آخر، وهو دائماً ما يكون عن مبادلة قريبة منتظرة، وتبدأ الوعود من الأهل بزجّ أسماء بناتهن. وتشغل التكهنات حال المعتقلات في المهاجع، بمن تلك التي ستخرج قريباً؟ وكم معتقلة مطلوبة لتلك المبادلة؟ لتتجدّد الأحلام وتبدأ من جديد.
في سجن عدرا للنساء، التضرّع والدعاء لله عزّ وجل هو سلاح المعتقلات الأقوى؛ فلا تنتهي ليلة من ليالي السجن المظلمة إلاّ بالصلاة والدعاء بفرجٍ قريب وحريّة مُنتظرة، دون أن أنسى عبارتهنّ الشهيرة: “تصبحن على إخلاء سبيل”.
سنبقى بانتظارهنّ، مُطالبين بحرّيتهنّ حتى خروج آخر شعلة أمل من بين قضبان سجون الظلم والظلام.
* ضمن حملة #المعتقلات_هن_الجميلات التي أطلقتها “حلقة سلام عنتاب- شبكة أنا هي”
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج