على مرّ السنوات الخمس الفائتة، هناك لحظة تبدو الآن من عالم آخر، فيها ملايين السوريين (ملايين بالفعل!) يقفون على صعيد واحد في وقت واحد وهم على قلب واحد.. يقولون للعالم نحن هنا، الآن، ومعاً.. نريد أن نكون!
لم يكن حلماً.. انتصرت الثورة من وقتها وحُسم الأمر لصالح الشعب.
كما لم تكن تلك المظاهرات الكرنفالية الكبيرة هي اللحظة المطوّلة الوحيدة. ففي كل مدينة وقرية شهد الثائرون المبكرون لحظات شعروا فيها أن البلد تغيرت، وأن العالم كلّه سيتغير كذلك.
لحظة نموذجية من صبيحة اقتحام جيش النظام المطعّم بالشبيحة لمدينة البيضا في بانياس، وبعد المشهد الصادم لمجموعات كبيرة من الجنود والشبيحة، وقد جمعوا كل رجال البلدة في ساحتها وراحوا ينكّلون بهم أمام العجائز والنساء، وكذلك أمام عدسة كاميرا سرّبت المقطع الشهير للإعلام، وسرّبت فيه ضحكات لأحمق يُدعى (أبو حيدر) وهو يدوس مع زملائه جباه شباب المدينة المكبّلين.
القصة مكررة، ونعرفها جميعاً، اقتحام للقرية الصغيرة العزلاء، قتل لبعض سكانها، تعذيب وإذلال لكل من فيها، محاولات لخلق الفتن الطائفية بين الأهالي، ثم اعتقال الجميع.. جميع الرجال. ثم ماذا؟
في الفجر التالي ليوم القرية الجهنمي الطويل، تعتصم نساء البيضا على الطريق الدولي، وتنضمّ لهن نساء بانياس وقرى مجاورة، يهتفن ضدّ الظلم وللمطالبة برجال القرية وشبابها. اضطر النظام لإرسال وفد يفاوضهن، ويلبّي كل مطالبهنّ، وأخرج جميع معتقلي القرية وجيرانها.
قبل أسابيع فقط أيضاً استجاب النظام الأصم المصمت -لأول مرة بعمره- لنداءات الناس في الشارع، وأرسل وزير داخليته ليستمع لصوت ربما كانت دهشة أصحابه أكبرَ من دهشة الوزير نفسه وهو يقول لهم مرعوباً: (..مظاهرة!.. عيب!)!!
في تشييع شهداء كفرسوسة ثم في المزّة، وأيضاً في الميدان في قلب دمشق، كان النظام يبدأ المفاوضة بطلب أن تبقى الجنائز صغيرة وململمة، ثم يضطر بالقبول أن يتمّ التشييع الضخم، على أن لا يُرفع علم الثورة ولا يُهتف بإسقاط النظام. كان الناس يعتبرون أن التزامهم ينتهي بدفن الشهيد. ويعرفون أن النظام لن يلتزم بما تعهّد به أثناء المفاوضات؛ من أنه سيحقّق في أمر إطلاق النار على المظاهرة التي ارتقى فيها المشيَّعون، وأنه سيعمل على محاسبة المتسبّبين، بل يعد أيضاً بأن مواجهة المظاهرات بالنار لن تتكرر!
يبدو تذكرنا لمطلع الثورة مفرطاً في الرومانسية، ويبدو معه لزاماً علينا، ونحن نعدّد مرات اضطر بها النظام أن يأتي صاغراً ليفاوض الناس وهم عزّلاً، أن نذكر بعضنا بأن هذه اللحظات لم تكن حلماً (مسروقاً أو مقتولاً أو ملعوناً!…) بل هي أحداث مرّت بالفعل وهي حقيقية، وصورها في ذاكرتنا أصلية.
واليوم مازلنا نكابر لكي لا نعترف بأننا -من وقت أن فشلنا بإمساك اللحظات الذهبية الكثيرة في البدايات- ونحن نراهن على حصان خاسر، بل إننا دخلنا سباق الخيول المدرّبة ببغل مستعار، لا نعرف ركوبه ونخاف أن يركبنا!
كنا كسوريين نذهب للمفاوضات خفافاً؛ لا تثقلنا أنهار الدماء وأنقاض المدن المدمّرة والأموال المسيّسة والرؤوس المقطّعة.. عزّلاً لكن أقوياء؛ يدفئنا دم الشهيد الساخن أكثر من شمس الربيع العربي (الذي انقلب صقيعاً). لا نأبه بما تريده دولٌ منّا، ولا بأن تقطع دولٌ دعمها عنّا أو عن ذخائرنا. فسلاحنا نحن، وذخيرتنا نحن، وهدفنا أيضاً نحن!
لا نسجّل هنا فصلاً آخر من سجالات (سلمية أم مسلّحة؟)، ولا نحاول أن نرمي (الآخرين) بالمشكلة. فلا شيء يعيد أو يعوّض أو حتى يرمّم ما فات؛ الشهداء، الجراح، المعتقلات وغرف التعذيب، التغريب.. الوقت.. والذاكرة! لكنّ الدرس الذي نتعلّمه من سني الثورة وشهور المفاوضات أن الحرب أو منتجاتها لن تأتي بالعدالة؛ فالعدالة هدف يتحقق بالبناء والتراكم، ولا يمكن تحصيله بالسمسرة والمفاصلة والتطفيف.
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.