مجلة طلعنا عالحرية

لا نريد مزيداً من الناجحين

قد يبدو الكلام للوهلة الأولى وكأنه دعوة إلى التراخي والتقاعس عن السعي لبلوغ النجاح في مجالات الحياة. لكنه في الحقيقة ليس كذلك على الإطلاق، إذ يمكن اعتباره إعادة تقييم لفكرة النجاح، بعد أن نكون قد أعدنا النظر بطريقة مختلفة في النتائج العملية لفهمنا السابق للنجاح، وفي وسائل سعينا المحموم لتحقيقه.
في حياتنا، تنتشر الشعارات أكثر، بما لا يقارن، من انتشار المعاني. والكلمات الجميلة التي نتداولها قد لا تحمل مضمونها الحقيقي، المضمون الأول الذي رافقها مع لحظات إطلاقها أول مرة. تخضع مفردة (النجاح) لذلك النوع من التفريغ الجوهري، فتتحول إلى مجرد كلمة براقة تخفي أشياء قذرة..
يشكل العمل مطلباً، وتحدياً كبيراً أمام الإنسان، ولعله بات المضمار الأوسع لاختبار قدرتنا على النجاح، فإن صدف و تنقلت في عملك بين عدة شركات، فلا بدّ وأنك صادفت مدراء كثر حافظوا على مواقعهم لسنوات طويلة، وتنقلوا في السلّم الوظيفي بسرعة، وكان الواحد منهم يعتبر نموذجاً حياً للنجاح، وقدوة تقدمه الإدارة لسائر الموظفين.
ولكن، الحقيقة قد لا تكون بهذا الصفاء المتخيّل، فكثيراً ما يكون هذا الشخص مجرد نموذج للوصولية والانتهازية، وللتملّق لمن هم أعلى منه مرتبة في التسلسل الوظيفي، ومثالاً للوشاية بمن حوله، ومصدراً للأذى يصيب كل من قد يشكل خطراً مستقبلياً على موقعه. وسترى أنّ كثيراً من الموظفين الباحثين عن نجاح (بأي ثمن)، يقومون بتسخير أنفسهم، فيتحولون إلى مجرد أدوات بيد مدير “ناجح”، في سبيل الوصول إلى ما وصل إليه، أو ربما احتلال مكانه..
على مستوى السلطة، نرى أمامنا نماذج ماثلة للعيان لرؤساء أنظمة، شردوا شعوبهم، بعد أن قتلوا منهم واعتقلوا نسبة كبيرة، ولكن هل يمكن أن ننكر أو نتجاهل حقيقة نجاحهم في البقاء والنجاة، ولو فوق أكوام مكدسة من الجماجم؟
ولو عدنا بالذاكرة قليلاً إلى الوراء، لوجدنا أنّ النجاح في المجتمع لم يكن يتطلب القيام بقدر كبير من الأفعال النزيهة. بل على العكس تماماً، كان يعتمد بدرجة كبيرة على أساليب تتعارض مع النزاهة، ويتم إلباسها مسميات مختلفة كـ “الشطارة” و “الفلهوية” و“معرفة من أين تؤكل الكتف”.. الخ.
كنا نرى ذلك ضمن الفئات التي تقع في قمة الهرم الاجتماعي والأكاديمي والسلطوي. فإذا كان مفهوم النجاح مشوهاً في مجالات القضاء والمحاماة، وعلى مستوى أساتذة الجامعات وإدارات الدولة، وإذا كانت شبكة علاقات الفساد، والارتباطات بالسلطة، والقدرة على التآمر على الآخرين، تتفوق على مقومات النزاهة، والكفاءة الشخصية والعلمية، فلا بدّ وأنّنا أمام حالة تشويه للمفاهيم وقلبها رأساً على عقب، وما يتبع ذلك من تعميم للمفاهيم المشوهة على الفئات الأخرى من المجتمع..
فإذا كان هذا هو المعنى الطاغي للنجاح في قمّة الهرم، فلا شك بأنّ المهن الأوسع انتشاراً في جسم الهرم لن تكون بحال أفضل. لقد تم تفريغ فكرة “النجاح” من مضمونها بشكل كامل تقريباً، إلا عند أولئك الذين يملكون درجة عالية من الرقابة الذاتية، وهؤلاء سيجدون أنفسهم في لحظة ما، في مواجهة مع تيار جارف، يحارب المعنى الجوهري للمفردة، ساعياً إلى تعميم التفريغ وتحويله إلى حقيقة..
لم يكن تغيير الواقع السياسي كافياً لتبديل حال هذه الفوضى العاتية في المفاهيم؛ في مفهوم النجاح على وجه الخصوص.. إذ لم نجد حالاً أفضل على مستوى المعارضة السياسية، والتي بات النجاح فيها مبنياً على معرفة مراكز القوى، وليس بالضرورة على الكفاءة في العمل السياسي، أو على امتلاك مشروع يناسب طبيعة المرحلة، وأيضاً على القدرة على بناء شبكة علاقات خارجية، حتى وصل الحال بكثيرين إلى الارتهان الكامل لبعض الأطراف.. وهؤلاء أصبحوا، و يا للمصادفة! الأكثر نجاحاً، وثباتاً في مواقعهم، من بين الجميع..
اختلفت الوجوه ولم تختلف المفاهيم والأساليب، وما يزال تشويه المعنى سارياً. ولا يختلف الأمر، مع الأسف، في مجالات الإغاثة، أو الإعلام، أو الثقافة والبحث العلمي.. فأصل الفساد واحد. ففي سوق مثقفي المعارضة اليوم، تجد ألقاباً وهمية، تم شراؤها أو منحها من جامعات غير معترف بها، وتجد تجمعات لمثقفين يفتقر أغلبهم إلى الصدقية والكفاءة، يقومون بتكريم واحد “من بينهم تحديداً” فيحصل على لقب ومركز، وهنا تحدث عملية إعادة تدوير لأنظمة الفساد، مع تواطؤ على احتكار الألقاب والسلطة، وتكريس هذا الشكل الجديد من الفساد ثقافياً، ليصبح لدينا في عالم الثقافة عصابات موازية لعصابات السياسة، لا تختلف عنها في أساليب الاحتيال والانتهازية، وبناء علاقات الفساد، والطعن في الظهر، وخيانة الأصدقاء ورفاق الدرب..
علينا الإقرار بأن بعض النجاحات كانت تكلفتها هائلة.. ولا أقصد هنا الكلام عن التكلفة كجهد مبذول، أو عمر مهدور، أو أموال طائلة. بل لعل هذه الخسائر (الكبيرة ولا شك) تعدُّ (وليس العمر مقصوداً هنا) من النوع القابل للتعويض. لكني أقصد النوع الآخر من النجاحات، والتي تكلّف خسائر لا يمكن تعويضها بأي حال من الأحوال..
فالنجاح الذي يتطلب التذلّل وإهراق الكرامات، وبيع القيم في مزادات رخيصة، أو التآمر على المحيطين، في سبيل الوصول إلى مركز أو سلطة، هو نوع من النجاح الذي يخسر معه الناجح الجزء الأهم من إنسانيّته. هنا يصبح النجاح هدفاً ونهاية، ولا شيء بعده، أو لأجله..
وهو نمط يحدث فيه تفريغ للإنسان من محتواه، كنوع من انتقام القيمة لذاتها، حين قام الإنسان بتفريغها من جوهرها. فلا شيء يجري بدون ثأر، والقيم تثأر لذاتها. فحين نفرّغها، ستقوم هي بتفريغنا أيضاً. وهكذا يضيع المعنى، وتضيع الجدوى من أي شيء..
نجحنا في السلطة، في العمل، في التعليم، في المهن.. لكنه نجاح بدون أي جدوى، لأنه بالأصل بلا معنى. فهو قائم، أصلاً، على تزوير الكلمات، وحين تزوّر الكلمة لا يبقى شيء بعد ذلك يمكن البناء عليه..
من علامات فشلنا، كثرة الناجحين عندنا، لكنها كثرةٌ ملازمة لسقوط مجتمعي متسارع، وانهيار شامل على المستويات كافة، ثم ضياعٌ لكل شيء مرّة واحدة..
مبدئياً، وإلى أن يتم استعادة المعنى، توقفوا عن النجاح رجاءً.. لا نريد مزيداً من الناجحين..

Exit mobile version