عماد العبار ــ كاتب سوري
من غير الممكن الحديث عن النهضة والتغيير في مجتمعاتنا دون التطرّق إلى دور ومكانة المرأة فيها. ولا مبالغة في القول بأنّ نهضة حقيقية تقتضي مشاركة واسعة للمرأة، وتقتضي كذلك اهتماماً اجتماعياً بتحقيق تلك المشاركة. ومن الواضح أنّ واقع الحال في مجتمعاتنا الشرقيّة لا يؤشّر على وجود وعي اجتماعي بهذه المسألة ذات الأهمية العالية، لذلك نادراً ما نجد خطوات عملية لمساعدة المرأة في أخذ مكانها من عملية التغيير.
اصطدمت الأصوات الداعية لتحرير المرأة من الأغلال التاريخية بالعديد من العوائق الاجتماعية، وكانت في معظمها وليدة عادات و تقاليد بالية، عصيّة على التغيير. بعضها قائم على أسس دينيّة واهية: روايات ضعيفة أو موضوعة، أو آراء تاريخيّة غير ملزمة، ومنها ما يعتمد على فهم وتطبيق خاطئين لنصوص صحيحة. في حين أنّ جزءاً منها يقوم على روايات مصنّفة في كتب الصحاح. حيث يلاحظ أنّ المختصّين المعاصرين بفنّ الحديث والرواية لم يتابعوا عمل المحقّقين القدماء، والذين بذلوا مجهوداً ضخماً في تنقيح عشرات آلاف الروايات.
لا أشكّ بأنّ المساواة بين الرجل والمرأة في الإنسانية مسألة محسومة قرآنيّاً، فالعدل في الخطاب الإلهي من الوضوح بمكان، لا سيّما حين يجعل منهما على درجةٍ واحدةٍ من حيث التكليف، والأهليّة في حمل المسؤوليّة، وحريّة الإرادة، والجزاء والعقاب… ومن نافل القول أنّ المساواة إنسانياً، لا تقتضي التساوي في المهام الحياتيّة، أو في بعض التفاصيل التشريعية التي تراعي الفروقات الجسدية (لا العقلية) بين الجنسين.
ولكن، لم يؤدِّ الوضوح القرآني إلى غياب سوء الفهم، وزوال مشاكل التطبيق، فلقد نزل القرآن في فترة كانت العرب تعيش حقبة مظلمة من تاريخها، وكانت المرأة تتحمّل حصّة كبيرة من الظلم، وكان التراث الجاهلي مثقلاً بأفكارٍ تضع المرأة في مكانةٍ أدنى من مكانة الرجل، وجاءت النظرة العامة للمرأة في تلك الفترة منسجمة مع صورتها في الإسرائيليات. وقد ذكر ابن خلدون في مقدّمته أنّ العرب“ لم يكونوا أهل كتاب ولا علم. وإنما غلبت عليهم البداوة والأُميَّة، وإذا تشوقوا إلى معرفة شىء مما تتشوق إليه النفوس البَشرية فى أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومَنْ تبع دينهم من النصارى”(1)… وبتصوّري، كان لهذه التصوّرات ـــ المنقولة عن بني إسرائيل في تلك الفترة ـــ أثر كبير في تشكيل وعي الإنسان العربي قبل الإسلام، فيما يخص نظرته للمرأة، وللوجود بشكل عام، وهي تصوّرات لم تندثر بشكل كامل بعد صعود القيم الإسلاميّة.
التساوي في العقوبة يتطلب التساوي في العقل:
وجّهت الآيات القرآنية خطاباً إنسانيّاً واحداً للجنسين، كما في قصّة الخلق: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين * فَأزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ”(2)… بل أكثر من ذلك، كان العتب الإلهي موجّهاً لآدم بالاسم في موضع آخر بعد حدوث الخطيئة، ولم يُحمّل المرأة ذنب غواية الرجل كما في الروايات الإسرائيليّة، فقد ورد في آية أخرى التالي: “فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”(3).
ولكن، مع ذلك، كانت الروايات الإسرائيليّة صاحبة أثر كبير على العقل الإسلامي؛ ظهر ذلك الأثر واضحاً في مرحلة متأخرة عن الراشدين، فصارت تلك الروايات جزءاً من آلية فهم كثير من النصوص، بما فيها النص القرآني، وصارت لها قدرة عجيبة على تغييب الوعي عن المعنى المباشر والواضح للنص. فحواء في الروايات الإسرائيلية ليست أكثر من مشروع غوايةٍ متنقّلٍ، وهي كائنٌ مجبولٌ على الخطيئة والإيقاع بالرجل… فهي تتحمّل مسؤولية مباشرة عن إغواء آدم، كما تحمل ذنب خطيئته التي ارتكبها يوم كانا في الجنّة، وقد نقلت أمّهات كتب التفسير بعض هذه الروايات، بالرغم من تعارضها الصريح مع مبادئ الإسلام!
ممّا لا شكّ فيه أنّ جهوداً كبيرة بُذلت لتنقيح وعزل هذه الروايات الشاذّة، لكّنها ـــ ويا للأسف!ـــ بقيت فاعلة على المستوى الاجتماعي خلال مراحل طويلة، ومن اللافت للنظر حضور هذه النظرة الدونية للمرأة، مع أدلّتها من الروايات، في كتب ذات مكانة هامة في التراث الإسلامي، ككتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي (450 – 505 هـ) فقد نقل في كتابه العديد من الروايات التي تحصر المرأة ضمن ثنائيّة العورة والغواية، وروايات أخرى تجعل الزواج بالنسبة للمرأة أشبه بمشروع للرق، اعتماداً على الرواية التي نُسب فيها للنبي قوله: “إنّ النكاح رقّ فلينظر أحدكم أين يضع كريمته”(4)، ممّا يعطينا فكرة عن طبيعة النظرة التي كانت سائدة في فترة معيّنة بعيدة عن الفترة التأسيسية…
ولكنّ المشكلة لا تكمن في الروايات الضعيفة فحسب، بل ثمّة روايات موجودة في كتب الصحاح أيضاً، لا تقلّ إشكاليّة عن سابقتها، ومنها الرواية التي رواها الترمذي وصحّحها الألباني، وفيها ينسب للنبي قوله: “إنّ المرأة عورة فإن خرجت استشرفها الشيطان”(5)، أو رواية أخرى مشهورة (متّفق عليها!) تجعل من النساء ناقصات عقل ودين…
نموذج عائشة في مواجهة عورات التراث :
باعتقادي، لم يكن الجيل النسوي الأول من الصحابيّات معنيّاً بهذه الأفكار الشاذّة عن نسق التحرّر الإسلامي، فقد كان الارتقاء الروحي مع صعود الإسلام كفيلاً بحجب مجمل الرواسب الاجتماعية السلبيّة، فلو كانت تلك العوائق الاجتماعية مؤثّرة، لما أمكن إنتاج نموذج نسويٍّ كنموذج السيّدة عائشة (ونماذج أخرى كثيرة)… لو كانت نظرة المجتمع للمرأة سلبيّة لما قَبِل بظهور هذا النموذج، لا سيّما بعد وفاة النبي الكريم، ثمّ وفاة أبيها أبي بكر من بعده، أي بعد غياب السند الروحي لها.
لم تكن عائشة مجرّد امرأة متميّزة، بل كانت مثالاً للمرأة الخليفة. على صعيد السياسة، قادت في آخر حياتها جيشاً كبيراً من المسلمين، فيما عرف بمعركة الجمل، نسبة للجمل الذي حمل هودجها، وكانت على رأس تيّار سياسي ضمّ عدداً كبيراً من كبار الصحابة، حيث كانت فيه صاحبة الكلمة العليا في مسائل السياسة والتفاوض. أمّا على صعيد الدين، فلا تخفى المكانة الدينيّة التي حظيت بها السيّدة عائشة، فربع أحكام الدين، بحسب الحاكم النيسابوري، نقلت عن عائشة وحدها. وكان أبو موسى الأشعري يقول: “ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً قط إلا وجدنا عندها منه علماً”(6).
إذاً، لو كان المسلمون الأوائل يرون في المرأة إنساناً ناقصاً، عقلاً أو ديناً، لاستحال وجود هذا النموذج في زمن مبكّر: نموذج لامرأة وقفت سياسياً في وجه رابع الخلفاء الراشدين، وحملت مهمّة تبليغ الكثير من أحكام الدين. لم يكن للروايات الواهية، والأحكام المعطّلة أي وجود في ذلك الزمان… ولكنّ مكانة المرأة انحدرت بعد ذلك. لماذا حصل ذلك؟
لأنّ تحولات خطيرة حدثت في المجتمع الإسلامي. تلك التحولات لم تنعكس على وضع المرأة فحسب، بل أثّرت على مجمل الحياة الاجتماعية والسياسية، فتقلّص هامش الحريّات العامة، وكثرت الروايات، وجرى تسيسها واستخدامها لأغراض أبعد ما تكون عن الدين، ونال المرأة القسط الأكبر من تلك التحوّلات…
***
بين العصر الذهبي الأول، الذي أخرج نموذج المرأة الخليفة، الزعيمة السياسية والدينيّة، وعصر التدوين هامش تاريخي ليس بالقليل؛ فبحسب تقدير الإمام الذهبي (673 ــ 748 ه) بدأ عصر التدوين في سنة 143 هـ. أي أنّ بين العصرين ما يقارب قرناً من الزمن، وتلك فترة طويلة كانت قد جرت خلالها أحداث عظام، وتحولات كبيرة في المجتمع الإسلامي. وبتقديري، أثّرت الصراعات السياسية على المجتمع من مختلف النواحي، والظاهر أنّ الاستبداد السياسي انعكس اجتماعياً، فظهرت خلال تلك الفترة روايات لا أصل لها، وتمّ نسبها إلى النبي الكريم وصحابته.
نقصان عقل المرأة بين التبرير والتلفيق :
بذل المحقّقون جهداً مشكوراً على صعيد الفرز والتنقيح، على مستوى الروايات المنسوبة للنبي الكريم، ولكنها في مرحلة ما كانت من الكثرة بحيث أصبح هامش الخطأ البشري في عملهم كبيراً جداً، وهذا ما قد يفسّر وجود الكثير من الروايات المثيرة للجدل بين أيدينا. ولا أتكّلم هنا عن الروايات التي صنّفها المختصّون بالحديث ضمن كتب الضعيف والموضوع، بل أقصد أيضاً بعض الروايات التي تتضمّنها كتب الصحاح، والتي تساهم بشكل أو بآخر في تكريس النظرة النمطية للمرأة، ككائن لا يتساوى مع الرجل، لا ديناً ولا عقلاً، بشكل يعيد إلى الأذهان تلك النظرة المسيئة للمرأة في التراث اليهودي!
وأقصد هنا، وبشكل أساسي، الرواية المشهورة في كتب الصحاح، والتي نُسب فيها للنبي الكريم قول: “يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادةُ المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها”(7)..
وللرواية السابقة سطوتها على الفهم الاجتماعي؛ فلا أبالغ إن قلت إنّ عموم الوسط التقليدي ينظر إلى المرأة كناقصة عقل ودين من خلال هذه الرواية بالذات، أو قد يكون من الجائز القول أيضاً إنّ أمثال هذه الروايات كانت قد وضعت، أصلاً، لتكريس نظرة معدّة مسبقاً تجاه المرأة، بما يجعلها تنال النصف كحدٍّ أعلى، من الدين والعقل!
وقد أثارت الرواية جدلاً واسعاً. ممّا اضطرّ المقتنعين بمضمونها إلى الردّ على ما أثير حولها من شبهات؛ فمنهم من ردّ بالإصرار على المحتوى، من خلال التأكيد على نقصان عقل المرأة، مستدلين بنظرة النص القرآني لشهادة المرأة، ومنهم من ردّ قائلاً: إنّ كلام النبي جاء ضمن سياق المزاح، أو إنّ المقصود بنقصان العقل غلبة العاطفة عندها، وقالوا أيضاً: إنّ سبب القول بنقصان دينها يعود إلى تقصيرها عن أداء بعض العبادات، بسبب ظروف الحيض والنفاس!
ومن الواضح أنّ الرغبة بتبرير المحتوى قد أدّت إلى المبالغة في التلفيق، فسياق الرواية لا يخدم الادعاء بأنّ الكلام جاء في موضع المزاح، بل على العكس تماماً، جاء بعد النصح والوعيد، بعد قوله: “يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار، قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير..”.
أمّا أن يقال إنّ نقص الدين سببه الحيض، فهذا الكلام لا يليق بأن يُنسب لنبي، فمن غير المعقول أن توصف النساء بنقص الدين لأمر خارج عن إرادتهنّ، أو أن يكون للرجال ميزة “دينيّة” لمجرّد أنهم خلقوا بطبيعة جسمانية مختلفة! ولو سلّمنا بصحة هذه الفرضية، فهل هذا يعني أنّ عقل ودين المرأة يعود للاكتمال بعد أن تبلغ سن الإياس، أو في حال تعرضت لاستئصال الرحم في سن مبكرة على سبيل المثال؟! وهل ينقص دين الرجل في حال تعرّض لمرض حال بينه وبين الأداء الكامل للعبادات؟! ويمكن أن نسأل سؤالاً أكثر عمقاً: هل يحاسبنا الله أو يصنّفنا عقائدياً على ما ليس لنا فيه يد ولا حيلة؟! والأهم من كل هذا، هل سيحاسب عزّ وجل النساء حساباً مخفّفاً يليق بكائنات لا تحمل المواصفات ذاتها التي يتمتع بها الرجل : كائنات مجبولة على نقص العقل والدين، ولا يملكن خياراً آخر حيال ذلك؟!
شهادة المرأة في القرآن لا تدعم قول القائلين بنقصان عقلها :
بالمقابل، كان تبرير نقصان عقل المرأة أسهل عندهم من تبرير نقصان دينها، فقد وجدوا نصّاً قرآنياً يدعم الفكرة، في إشارة إلى الآية: “وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَىٰ”(8)، والتي فهمها الناس بحسب الفهم التالي على إطلاقه: شهادة الرجل بشهادة امرأتين…
من الجدير بالذكر أنّ الآية هي ذات الآية التي تتكلم عن الحقوق المالية، والتي تتعلّق بأحكام المداينة: “يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ”… وتعلّل الآية مسألة الشهادتين بالقول: “أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَىٰ”.
حين نتكلم عن حقوق مالية، فنحن أمام أرقام، وتواريخ، وتفاصيل قابلة للنسيان، وبالتالي فالكلام هنا يتعلّق بالنسيان، أو بتداخل التفاصيل… لكن هل هذه الناحية موجودة فقط عند النساء؟ أي هل جعلت الآية مسألة النسيان خاصّة بالمرأة دون الرجل؟
الجواب: لا! فلو كان الأمر كذلك، لكانت شهادة الرجل لوحده مقبولة، ولما كان ثمّة حاجة أصلاً لشهادة المرأة في حال تعذّر وجود الرجل الثاني، وفي موضع آخر أوجب النص أربعة شهداء (رجال بحسب جمهور الفقهاء)، كما في الآية: “لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْد اللَّه هُمُ الْكَاذِبُونَ”(9).
إذاً، أوجب النص في الأصل رجلين، وأربعة في مكان آخر، ولم يكتفِ برجل واحد! لماذا؟
لنفس السبب الذي أوجب فيه وجود امرأتين، أي إن ضلّ أحد الرجلين، أو أحد الأربعة، أو نسي، سيقوم الآخر بتذكيره، أو سيطعن بشهادته أو يثبتها.. فهل يصح أن يقال هنا عن الرجال: (ناقصو عقل)، مثلاً، لأنّ شهادة واحد منهم لم تكن كافية وحدها لحسم المسألة؟
بتصوري، تم استخدام هذه النصوص بطريقة غير بريئة لتكريس نظرة ما، النص بريء منها. فلم يأت النص على ذكر التفاصيل المتعلقة بالشهادة بهدف وضع المرأة في مكانة أدنى، بل من أجل تثبيت الحقوق وترسيخ العدل، ومن أجل هذا المقصد تم ترتيب مسائل الشهادة وفق خبرة، واهتمام الرجل والمرأة، بشكل عام، أو في ذلك الزمان على أقل تقدير، ضمن المجال التي تتحدث عنه الآيات. فمن الدارج أنّ الرجال أكثر دراية وخبرة، واهتماماً، بمسائل المكاتبات والتفاصيل المالية…
في حين إنّ شهادة المرأة قبلت منفردة عند جمهور الفقهاء، فيما لا يطّلع عليه الرجال، أي فيما لا خبرة لهم فيه، وهي حالات تُعتبر المرأة فيها أكثر دراية وخبرة من الرجل : كما في شهادة القابلة، ورأيها في كل ما لا يستطيع الرجال النظر إليه من النساء، وشهادتها في مسائل الإرضاع… وهي تفاصيلٌ لا تقل خطورة أبداً عن مسائل الحدود والمكاتبات المالية، ففيها قد يثبت زواج أو طلاق أو نسب، كما تؤكّد الرواية التالية : “وعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز فأتت امرأة فقالت: قد أرضعت عقبة والتي تزوج بها، فقال لها عقبة ما أعلم أنك قد أرضعتني ولا أخبرتني، فأرسل إلى آل أبي إهاب فسألهم فقالوا: ما علمنا أرضعت صاحبتنا، فركب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فسأله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف وقد قيل، ففارقها عقبة ونكحت زوجاً غيره” (10).
والملاحظ أنّ شهادة امرأة واحدة، بحسب الرواية هنا، كانت كافية في موضوع حسّاس كهذا، وهذا ما كان عليه كثير من الفقهاء، وهذا الامتياز “إن صح التعبير!” لم يحصل عليه الرجل في المسائل التي تقع ضمن نطاق خبرته واختصاصه، حين لم تكن شهادة رجل واحد كافية في المسائل التي تقع ضمن نطاق خبرته.
إذاً، يمكننا أن نلخص على الشكل التالي: اهتم النص بتوزيع الأدوار بحسب خبرة كل من الجنسين فيما يتعلق بالقضية المطروحة للشهادة، فتارة كانت شهادة الرجل أولى، وكان لا بدّ من عدد من الرجال، إلا في بعض الحالات، أو عدد من الرجال والنساء… وتارة كان لشهادة المرأة الأولوية في تثبيت الحقوق، حتى إنّ شهادتهاكانت تقبل لوحدها في بعض الأحيان.
أختم بالقول: إن للنص مقاصد اجتماعية سامية، ولأجلها كان يعمل على توزيع الأدوار بالتساوي، ولكننا كثيراً ما نستخدم التوزيع ذاته لترسيخ مبادئ غير سامية، وهذا ما يحصل عادة في عصور الانحدار…
(تم نشر المادة على جزئين في العددين 72 ــ 73 من المجلة)
*****************************
(1)(الذهبي، حسين، التفسير والمفسرون، موقع المكتبة الشاملة، ج1، ص129)
(2)(البقرة: 35ـــ36)
(3)(البقرة: 37)
(4)(الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، موقع المكتبة الشاملة، دار المعرفة، ج2، ص41)
(5)(متفق عليه)
(6)(الذهبي، شمس الدين، تذكرة الحفاظ، موقع المكتبة الشاملة، دار الكتب العلمية، ج1، ص25)
(7)(رواه البخاري)
(8)(البقرة : 282)
(9)(النور : 13)
(10)(صحيح البخاري)
كاتب سوري