بين العصر الذهبي الأول، الذي أخرج نموذج المرأة الخليفة، الزعيمة السياسية والدينيّة، وعصر التدوين هامش تاريخي ليس بالقليل؛ فبحسب تقدير الإمام الذهبي، بدأ عصر التدوين في سنة 143 هـ. أي أنّ بين العصرين ما يقارب قرناً من الزمن، وتلك فترة طويلة كانت قد جرت خلالها أحداث عظام، وتحولات كبيرة في المجتمع الإسلامي. وبتقديري، ساهمت الصراعات السياسية في التأثير على المجتمع من مختلف النواحي، والظاهر أنّ الاستبداد السياسي انعكس اجتماعياً، وظهرت خلال تلك الفترة العديد من الروايات التي لا أصل لها، وتمّ نسبها إلى النبي الكريم وصحابته.
قديماً، بذل المحقّقون جهداً مشكوراً على صعيد الفرز، والتنقيح على مستوى الروايات المنسوبة للنبي الكريم، ولكنها في مرحلة ما كانت من الكثرة بحيث أصبح هامش الخطأ البشري كبيراً جداً، وهذا ما قد يفسّر وجود الكثير من الروايات المثيرة للجدل بين أيدينا.
ولا أتكّلم هنا عن الروايات التي صنّفها المختصّون بالحديث ضمن كتب الضعيف والموضوع، بل أقصد أيضاً بعض الروايات التي تتضمّنها كتب الصحاح، والتي تساهم بشكل أو بآخر في تكريس النظرة النمطية للمرأة، ككائن لا يتساوى مع الرجل، لا ديناً ولا عقلاً، بشكل يعيد إلى الأذهان تلك النظرة المسيئة للمرأة في التراث اليهودي!
وأقصد هنا، وبشكل أساسي، الرواية المشهورة في كتب الصحاح؛ فقد نسب للنبي الكريم أنّه قال: “يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادةُ المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها”..
وللرواية السابقة سطوتها على الفهم الاجتماعي؛ فلا أبالغ إن قلت إنّ الوسط التقليدي ينظر إلى المرأة كناقصة عقل ودين من خلال هذه الرواية بالذات، أو قد يكون من الصواب أيضاً إنّها وضعت لتكريس نظرة معدّة مسبقاً تجاه المرأة، بما يجعلها تنال النصف كحدٍّ أعلى، من الدين والعقل!
وقد أثارت الرواية جدلاً واسعاً. ممّا اضطرّ المقتنعين بمضمونها إلى الردّ على ما أثير حولها؛ فمنهم من ردّ بالإصرار على المحتوى، من خلال التأكيد على نقصان عقلها، مستدلين بنظرة النص القرآني لشهادة المرأة، ومنهم من ردّ قائلاً: إنّ كلام النبي جاء ضمن سياق المزاح، أو إنّ المقصود بنقصان العقل غلبة العاطفة عندها، وقالوا أيضاً: إنّ سبب القول بنقصان دينها يعود إلى تقصيرها عن أداء بعض العبادات، بسبب ظروف الحيض والنفاس!
ومن الواضح أنّ الرغبة بتبرير المحتوى قد أدّت إلى المبالغة في التلفيق، فسياق الرواية لا يخدم الادعاء بأنّ الكلام جاء في موضع المزاح، بل على العكس تماماً، جاء بعد النصح والوعيد، بعد قوله: “يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار، قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير..”.
أمّا أن يقال إنّ نقص الدين سببه الحيض، فهذا الكلام لا يليق بأن يُنسب لنبي، فمن غير المعقول أن توصف النساء بنقص الدين لأمر خارج عن إرادتهنّ، أو أن يكون للرجال ميزة “دينيّة” لمجرّد أنهم خلقوا بطبيعة جسمانية مختلفة! ولو سلّمنا بصحة هذه الفرضية، فهل هذا يعني أنّ عقل ودين المرأة يعود للاكتمال بعد أن تبلغ سن الإياس، أو في حال تعرضت لاستئصال الرحم في سن مبكرة على سبيل المثال؟! وهل ينقص دين الرجل في حال تعرّض لمرض حال بينه وبين الأداء الكامل للعبادات؟! ويمكن أن نسأل سؤالاً أشمل: هل يحاسبنا الله أو يصنّفنا عقائدياً على ما ليس لنا فيه يد ولا حيلة؟! والأهم من كل هذا، هل سيحاسب عزّ وجل النساء حساباً مخففاً، ومخصصاً لكائنات لا تحمل المواصفات ذاتها التي يتمتع بها الرجل، كائنات مجبولة على نقص العقل والدين، ولا يملكن خياراً آخر؟!
بالمقابل، كان تبرير نقصان عقل المرأة أسهل عندهم من تبرير نقصان دينها، فقد وجدوا نصّاً قرآنياً يدعم الفكرة، في إشارة إلى الآية 282 من سورة البقرة: “وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَىٰ”، والتي فهمها الناس بحسب الفهم التالي على إطلاقه: شهادة الرجل بشهادة امرأتين..
من الجدير بالذكر أنّ الآية هي ذات الآية التي تتكلم عن الحقوق المالية، والتي تتعلّق بأحكام المداينة: “يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ”.. وتعلّل الآية مسألة الشهادتين بالقول: “أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَىٰ”.
حين نتكلم عن حقوق مالية، فنحن أمام أرقام، وتواريخ، وتفاصيل قابلة للنسيان، وبالتالي فالكلام هنا يتعلّق بالنسيان، أو بتداخل التفاصيل.. لكن هل هذه الناحية موجودة فقط عند النساء؟ أي هل جعلت الآية مسألة النسيان خاصّة بالمرأة دون الرجل؟
الجواب: لا! فلو كان الأمر كذلك، لكانت شهادة الرجل لوحده مقبولة، ولما كان ثمّة حاجة أصلاً لشهادة المرأة في حال تعذّر وجود الرجل الثاني، وفي موضع آخر أوجب النص أربعة شهداء (رجال بحسب جمهور الفقهاء)، كما في الآية: “لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْد اللَّه هُمُ الْكَاذِبُونَ”..
إذاً، أوجب النص في الأصل رجلين، وأربعة في مكان آخر، ولم يكتفِ برجل واحد! لماذا؟
لنفس السبب الذي أوجب فيه وجود امرأتين، أي إن ضلّ أحد الرجلين، أو أحد الأربعة، أو نسي، سيقوم الآخر بتذكيره، أو سيطعن بشهادته أو يثبتها.. فهل يصح أن يقال هنا عن الرجال: (ناقصو عقل)، مثلاً، لأنّ شهادة واحد منهم لم تكن كافية وحدها لحسم المسألة؟!
بتصوري، تم استخدام هذه النصوص بطريقة غير بريئة لتكريس نظرة ما، النص بريء منها. فلم يأت النص على ذكر التفاصيل المتعلقة بالشهادة بهدف جعل المرأة في مكانة أدنى، بل من أجل تثبيت الحقوق وترسيخ العدل، ومن أجل هذا المقصد تم ترتيب مسائل الشهادة وفق خبرة، واهتمام الرجل والمرأة، بشكل عام، أو في ذلك الزمان على أقل تقدير، ضمن المجال التي تتحدث عنه الآيات. فمن الدارج أنّ الرجال أكثر دراية وخبرة، واهتماماً، بمسائل المكاتبات والتفاصيل المالية..
في حين إنّ شهادة المرأة قبلت منفردة عند جمهور الفقهاء، فيما لا يطّلع عليه الرجال، أي فيما لا خبرة لهم فيه، وهي حالات تعتبر المرأة فيها أكثر دراية وخبرة من الرجل، كما في شهادة القابلة، ورأيها في كل ما لا يستطيع الرجال النظر إليه من النساء، وشهادتها في مسائل الإرضاع. وهي تفاصيل لا تقل خطورة أبداً عن مسائل الحدود والمكاتبات المالية، ففيها قد يثبت زواج أو طلاق أو نسب، كما في الحادثة التالية المروية في صحيح البخاري: “وعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز فأتت امرأة فقالت: قد أرضعت عقبة والتي تزوج بها، فقال لها عقبة ما أعلم أنك قد أرضعتني ولا أخبرتني، فأرسل إلى آل أبي إهاب فسألهم فقالوا: ما علمنا أرضعت صاحبتنا، فركب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فسأله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف وقد قيل، ففارقها عقبة ونكحت زوجاً غيره”..
والملاحظ أنّ، بحسب الرواية هنا، شهادة امرأة واحدة كانت كافية، وهذا ما كان عليه كثير من الفقهاء، وهذا الامتياز “إن صح التعبير!” لم يحصل عليه الرجل في المسائل التي تقع ضمن نطاق خبرته واختصاصه.
إذاً يمكننا أن نلخص على الشكل التالي: اهتم النص بتوزيع الأدوار بحسب خبرة كل من الجنسين فيما يتعلق بالقضية المطروحة للشهادة، فتارة كانت شهادة الرجل أولى، وكان لا بدّ من عدد من الرجال، إلا في بعض الحالات، أو عدد من الرجال والنساء. وتارة كان لشهادة المرأة الأولوية في تثبيت الحقوق، حتى إنها كانت تقبل لوحدها في بعض الأحيان..
أختم بالقول: إن للنص مقاصد اجتماعية سامية، ولأجلها يتم توزيع الأدوار بالتساوي، ولكننا كثيراً ما نستخدم التوزيع ذاته لترسيخ مبادئ غير سامية، وهذا ما يحصل عادة في عصور الانهيار..
كاتب سوري