منذ جمعَ الصحابي أسعد بن زرارة المسلمين يوم عروبة (ثم صار يُدعى الجمعة) على صلاة وخطبة، ثم جمعهم رسول الله محمد بعد وصوله يثرب بأربعة أيام، ولم يزل المسلمون يجتمعون أسبوعياً، يستمعون لمتحدثٍ واحد لما يقارب 20 دقيقة أو أكثر، لا يُقاطعه ولا يُحدّثه ولا يجادله أحدٌ غالباً، ونحن اليوم بعد 1441 عاماً من الهجرة وفي كل عام 12 شهراً وفي كل شهر 4 جُمع.
لن أطيل بالتقديم والمعلومات فـ Google موجود، ولكني منذُ أن عرفتُ مكاناً في منطقة الفاتح/ إسطنبول يُخطَب فيه بالعربية، صرتُ أصلّي الجمعة هناك، وهو ليس مسجداً أو جامعاً، لكنه يفي بغرض سماع خطبة بالعربية، ولا بد أن تكون قريبة جداً من الحدث السوري؛ لأن القائمين عليه سوريون، وهنا كانت المفارقة، مرّت أحداث كثيرة داخل سوريا ولم تكن الخطبة قريبة مما يحدث إلا بالتّعريض المستتر أو التلميح، وخطيب المكان يذكر في دعائه المعتقلين، ولكن لا يذكر مخيمات ولا يذكر الطاغية بشار الأسد وأعوانه، وذلك موجود في عادات الدعاء بذكر الطغاة والمجرمين، وأرى أن الدعاء عليهم مما يحفّز النفوس ضدّهم وضدّ أفعالهم، ومرّ على الثورة والسوريين ما مر من احتلال شرقيّ السكة في ريف إدلب واحتلال ريف حماة وسواها من المنطقة التي خسرها الثوّار مؤخراً، واستشهاد رموز مثل عبد الباسط الساروت.. ولم يأتِ الخطيب إلّا تعريضاً بعيداً بهذه المصائب.
وكنتُ قد عزمتُ أن أكتب في “سرقة منبر الجمعة” عدة مرات، ولكن ما حدث اليوم كان فارقاً، اليوم في جمعة 20-12-2019 والمصائب تنزل على رؤوس الخلائق في الداخل السوري، والقصف يستهدف المدني قبل العسكري، والأسواق قبل الجبهات، والمدن والقرى تُحرَق بأكملها، وحتى المخيمات تُقصف، تلك المناطق التي تشعر أنها قطعٌ من جهنم وضعتْ على الأرض، كل شيء يُقصف ويُدمّر، والتهجير مستمر، واعتداءات الفصائل المتشددة على الناس والناشطين والثوار مستمرة، والحاجات الأساسية للحياة عند الناس مفقودة.. وكان توقّعي أن تستنفر خطبةُ اليوم الناسَ وتحفّزهم على فعل أي شيء للتخفيف عن أهلهم، وأن تحثّهم على الاجتهاد في تقديم ما يستطيعون. وحين سمعتُ صوت خطيب آخر غير الذي كان يخطب أصبحتُ متفائلاً أكثر بأن الخطبة ستكون حتماً عمّا يحدث الآن، لكي أُصدمَ تماماً؛ فلم يذكر الخطيب كلمة “إدلب” ولا مرة واحدة في الخطبتين والدعاء (ومعلومكم أن صلاة الجمعة خطبتان طويلة وقصيرة) ولم يذكر كلمة “المخيمات” ولا مرة واحدة، لم يتحدث عم يعانيه الناس إطلاقاً! قضى 45 دقيقة في الحديث عن الصبر والمصائب التي تنزل، ومرّر رسائل قبيحة جداً منها أن المصائب بما كسبت أيدينا وعلى قوله: “انظر لنفسك ماذا فعلت”، ولم يكلّف نفسه للحظة واحدة أن يتحدث عن القصف أو التهجير أو القتل أو احتياجات الناس.. تحدث عن معركة الخندق والحصار الذي تعرض له المسلمون في يثرب، ولا مُفاضلة بين المصائب فكيف إذا كان الكلام عن ألف سنة ويزيدون، فإذا به يقول: “لم يحدث في تاريخنا مصيبة أكبر من حصار الخندق”! كأنه لم يسمع بحصار الغوطة الشرقية وحصار مضايا وحصار داريا، هذا من سنوات قلائل فقط؛ سنوات عاشها الناس دون طعام، “ماتوا جوعاً” وهذا ليس مجازاً.. كأنه لم يسمع بالسلاح الكيميائي بعدة مناطق، كأنه لا يعلم أن من بين الحاضرين من عانا حصاراً ما وأصيب بالكيمياوي وغيره.
وبالتأكيد أنا ضدّ المفاضلة أو المقارنة بين الآلام والمصائب، ولكن ما فعله هذا الخطيب الذي لا أعرف اسمه ولو عرفتُهُ لقلته صراحة، لا يمتّ إطلاقاً للتصبير ولا لشحذ همم الناس بصِلة. ومما زاد الطين بلّة، حين بدأ يستهزئ بالمتشائمين، أوليس كل ما يحدث يجعل الإنسان محبطاً، بدل أن يشحذ همتهم ويواسيهم بدأ بلغة أشبه بالاستهزاء والسخرية. ينتقدهم وكأن المتشائم أو المحبط هو سبب الانكسارات والأسى! وتدرون ماذا يتحدث هؤلاء الخطباء عن الانتحار وكيف أن المنتحرين من أخبث أناس الأمة، بدل أن يحاولوا توجيه الناس إلى الدعم النفسي ودعم بعضهم بعضاً. ولا يستحي فضيلته من التفاخر بازدياد نسبة الانتحار في بلاد الكفر أمام نسبته في بلادنا، ولكن المصائب دائمة على رأي خطيبنا، والأسى مستمر، وعلينا أن نفهم ذلك أن هذه الحياة الدنيا ليست دار راحة حتى نطلب فيها الراحة والفرج، وأن ذلك سنة الله علينا..
والله لا أعرف ما الذي يحاول فعله هذا الرجل؟!
وأكاد أقسم أن هذه الخطبة لو كانت في مناطق النظام لما منعها، ولا اعترض عليها، وهنا المصيبة، ولو كانت قبل عام 2011 لجازَ قولها، فتخيّل -يا رعاك الله- مستوى الخطاب الموجود فيها، لا ينتمي لما بعد 2011 ولا ينتمي لخارج مناطق النظام ففي أي الأوقات الصعبة نعيش!
إنني أطمع ككل الناس، بخطبة لا تصلح للزمان السابق بل تصلح حاضراً ومستقبلاً، وأطمع ككل الناس، بخطبة لا يمكن أن يقبلها الظالمون والطغاة والمعتدون، حتى تكون تشبهنا نحن الناس؛ نحن الذين اعتُقلنا وهُجّرنا وقُتلنا.
وحتى لا نهضمَ حقّ الرجل -خطيبناـ فقد ذكر مثالاً عن المصائب التي تنزل على المسلمين وكانت الإيغور، وكأن الصين أقرب إلى إسطنبول من إدلب؟!، ولستُ ضدّ الحديث والتضامن مع كل مظلوم في الدنيا ومنهم الإيغور، ولكن لا يكون ذلك على حساب ما يحدث لأهلك، ولا يكون ذلك أيضاً استرضاءً لموقف الدولة المضيفة وخطابها، فكلّ القبح بأن يصير تضامننا على مقاسات غيرنا.
كاتب وشاعر سوري