عبد الله الخطيب
مخيم اليرموك
وقف على باب المنزل وقال بصوت مرتفع:
– “اسمعي يا مرة، رايح على الشام جيب خبز وأرجع.. ما بطول”
– “اتكل على الله بس خود ابنك معك”
انطلق الأب في رحلة البحث عن الخبز، ووضع خطة محكمة للخروج والعودة وعبور الحاجز.
حاول استجماع كل قواه النفسية ليحافظ على رباطة جأشه أمام الضابط المناوب على الحاجز، وصل إلى نقطة التفتيش.. سأله العسكري: “لوين رايح ؟” بصوت لا يخلو من قلة الاحترام التي تعودوا استخدامها مع سكان المخيم منذ ضربة الميغ الشهيرة.
أجابه: “رايح جيب خبز وارجع على المخيم”.
ضحك الضباط والعسكري وقال له: “ قول
الله !
لم يفهم الرجل مغزى تلك الضحكة إلا في اليوم التالي حين انتشر الخبر كالنار في الهشيم باغلاق حاجز المخيم، وحينها لم يتوقع أحد أن يستمر هذا الإغلاق إلى أجل غير مسمى، لكن الرجل استمر بالحضور يومياً إلى الحاجز، وربطة الخبز بيده اليمنى ويمسك ابنه بيده اليسرى، ويقف على مشارف المخيم مثل عشرات آخرين على أمل السماح لهم بالدخول. وفي كل مرة يعود أدراجه والخبز يزداد يباساً والولد يكبر رويداً رويداً.. والرجل يزادد هرماً، لكن اليأس لا يعرف طريقه إلى قلبه، ويكرر المحاولة المرة تلو المرة.. والنتيجة ذاتها.
الضغط والسكري وبعض الأمراض الجانبية باتت أكثر حضوراً في جسد الرجل المنهك. الطفل أعلن استسلامه وقال لأبيه في رحلة العودة: “يابا أنا بكرة ما بدي أجي معك.. تعبت من الوقفة والمشي”.
يتسلل الجوع إلى بطون أطفال المخيم، والموت إلى حناياه، وتشرّع المقبرة أبوابها لأفواج الموتى المصلوبين على عظام القفص الصدري.
الرجل مستمر برحلته الأوديسية التي تعيده إلى أوله. الطفل لا يصدق أن صديقه بالمدرسة مات بشظية جوع! والأب تلقى بصدمة خبر موت الحاج أبو خالد جاره المعروف بكرمه بسبب نقص الدواء.
ربطة الخبز ما زالت في يده، الطريق ما زال مغلقاً، الموت بالمخيم مستمر.
دموع الأمهات والأطفال الجوعى مصدر الملح الوحيد. والدم المسفوك على جدران المخيم لوّن المشهد الأسود.
العجز سيد الموقف، والصراخ طريقة الجوعى الوحيدة لإثارة الضجيج على موتهم.
الأم ما زالت تقول لابنها: “غداً سيفتح الطريق”، وفي هذه المرة لم تكن تكذب. فطريق السماء كان مشرعاً للمحاصرين دون قيود ودون إبراز هوية! المقبرة وشذاذ الأفاق واللصوص وحدهم كانوا ينامون متخمين من لحم البشر.
الأعداد باتت هستيرية، والصلاة على الميت أصبحت فرضاً سادساً في حياة المخيم.
يستجمع السكان قواهم ويتجهون نحو الحاجز، وعلم فلسطين في يد أحمد، لا يطلبون الخبز، بل يطلبون الموت السريع!
مات أحمد وسقط علم فلسطين على أبواب المخيم بضربة قناص.
عامان ونصف وربطة الخبز بيد الرجل، استوقفه حاجز الأمن، أمسك الضابط الخبز ونثر فتاته في كل مكان. وضرب الطفل وطرحه جانباً، واعتقل الرجل.
ينتظر الطفل غياب الأمن ويجمع بعض بقايا الخبز. يغيب الأب لخمسين يوماً في المعتقل، الطفل يدخل إلى المخيم حيث بقيت أمه في الانتظار، تحتضنه بشغف.. تتفقد جسده النحيل، تفتح يده الصغيرة، تجد فتات الخبز.. وتبكي بحرقة.. “أمي نريد أبي.. لم نعد نريد الخبز..”.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج