جلست “مرثا سرجون” وهي سيدة آشورية في بداية عقدها الخامس، تروي قصة اختطافها وتلك اللحظات العصيبة التي مرت بها؛ حيث بقيت عشرة أشهر محتجزة لدى عناصر “تنظيم الدولة الإسّلامية” بين 23 شباط/ فبراير عام (2015) حتى 23 كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه. قضتها في سجن بمدينة الرقة معقل التنظيم الرئيسي في سوريا.
كانت تلبس شالاً وثوباً أسود اللون؛ بقيت متّشحة به طيلة العام الماضي عندما تم الإفراج عنها، حيث كانت لا تزال ترتديه خشيةً من عودة الجهاديين الى منطقتهم. أما اليوم فكان الأسود يملأ قلبها وجسدها حداداً على وفاة ابنها “زيا” ذي العشرين ربيعاً قبل شهرين، حيث كان مقاتلاً في “قوات حرس الخابور” التي تحمي القرى الآشورية في بلدة تل تمر (أقصى شمال سوريا).
تنتمي “مرثا سرجون” إلى الأقلية السريانية- الآشورية المسيحية وتنحدر من قرية تل شميرام الواقعة جنوب غرب بلدة تل تمر، والتي تبعد نحو 40 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من مدينة الحسكة.
ذاكرة مثقلة
اختطفت وزوجها صموئيل سرجون مع 234 آشورياً من قبل عناصر “تنظيم الدولة” المتطرف، إثر هجوم شنه الأخير فجر يوم 23 شباط/ فبراير من العام (2015)، على قرى نهر الخابور ويدين سكانها السريانية الآشورية.
ولدى حديثها مع مجلة (طلعنا عالحرية) نقلت مرثا أنها وزوجها قررا السفر واللجوء إلى إحدى الدول الأوربية، وقالت: “لما كنت مختطفة ورهينة عند تنظيم داعش ما كنت أصدق أن يفرجوا عني، وترجع لي حريتي. أما اليوم وبكل أسف ننتظر وبفارغ الصبر الهجرة لدولة غربية تؤمن لنا حياة أفضل”.
ونقلت مرثا كيف إنها صدمت بعدما خرجت من السجن، إذ نقل لها زوجها أنّ عناصر التنظيم أضرموا النار في منزلهم في قرية تلّ شميرام إلى جانب الكثير من المنازل، وأحرقوا كنيستها. وعبّرت عن مشاعرها بحرقة قائلة: “إلى الآن، ما طلعت على قريتنا، قلبي لا يحتمل شوف بيتنا وهو محترق، حرقوا كلّ ذكرياتنا، وحرقوا كنيستنا، ما تركوا لنا شيء”.
ويسكن معظم السريان الآشوريين في القرى المحيطة بنهر الخابور في مدينة الحسكة وبلدة تل تمر، وينتشرون في مدينتي القامشلي والمالكية (أقصى شمال شرق البلاد)، لكن الكثير منهم نزحوا جراء استمرار الحرب الدائرة في بلادهم منذ ستة أعوام.
وتابعت مرثا حديثها ومظاهر الحزن بادية على وجهها لتقول: “عانينا الأمرّين هنا خلال السنوات الماضية، خطف وسجن وحرق، فوق كلّ ذلك، فقدنا ابننا الوحيد.. سنسافر إلى وطن يوفّر لنا الأمن والحماية ونكمل بقية حياتنا بعيداً عن هذه الحروب والصراعات”.
نزوح وهجرة
تشير معظم الدراسات الصادرة حول المسيحيين في سوريا إلى أنّ عددهم في تناقص. ففي بداية القرن كانت نسبتهم نحو 20 بالمئة من تعداد السكان العام والبالغ 22 مليون نسمة، أي أنّ أكثر من اثنين مليون مسيحي كان يعيش قبل العام (2011)، وانخفضت أعدادهم كثيراً وتقدر نسبتهم في الوقت الراهن بأقل من عشرة بالمئة.
ويعزو الكاتب والباحث في شؤون الأقليات سليمان اليوسف في لقائه مع مجلة (طلعنا عالحرية) أنّ الآشوريين وباقي الأقليات في سوريا وقعوا ضحية صراعات وحروب الآخرين على السلطة وعلى من يحكم المنطقة.
وفي حديثه اعتبر أنّ: “ما يخشاه الكلد والآشوريون خصوصاً، والمسيحيون عموماً ليس سقوط النظام ورحيل الأسد كما يظن البعض؛ وإنما سقوط الدولة السورية التي شكلت عبر تاريخها الطويل ملاذاً آمناً لهم ولجميع الأقليات”، منوهاً: “ثمة شعور عام لديهم بأنهم الحلقة الأضعف في المجتمع السوري، خلافاً لمعظم الأقليات الأخرى، سيما إذا انفلت الوضع الأمني أكثر في البلاد”.
وبعد هجوم عناصر “تنظيم الدولة” في شباط/ فبراير عام 2015، على قرى حوض الخابور في بلدة تل تمر، قاموا بتفجير كنيسة “السيدة مريم العذراء” في قرية تل نصري، وطال الدمار والخراب كنيسة “الربان بثيو” في قرية تل هرمز، وحدثت أضرار مادية جسيمة بعد حرق عناصر التنظيم كنيسة “قبر شامية” المعروفة باسم “مار جرجس”، كما أصيب عدد من كنائس ريف الحسكة الغربي بالحرق والدمار.
صمت وحنين
صمتت أجراس الكنائس بسبب الخراب والدمار الذي لحق بها في بلدة تل تمر وقرى محيط الخابور، وينذر هذا المشهد بقتل التنوع في مدينة الحسكة السورية وإرغام الأقليات الدينية والمذهبية على المغادرة نهاية الأمر.
“شمعون قرياقوس” وهو رجل في منتصف عقده الرابع ومن سكان قرية تل مساس والتي تبعد نحو 7 كيلو مترات جنوب بلدة تل تمر، قرر البقاء في قريته، وقام بزراعة أراضيها بمحصول القمح والشعير. وعن السبب الذي دفعه لهذه الخطوة قال لمجلة (طلعنا عالحرية): “قبل سنوات كانت قرانا تعطي الخير لسكان الحسكة والجزيرة السورية.. الآن، وبعد ما سافر أغلبية أبنائها رجعت وزرعت هذه الأراضي ليتذكر أصحابها أنّ لهم جذوراً هنا”، ويأمل أن يأتي يوم ويعود أصدقاؤه وأقرباؤه. وعبر عن مشاعره المختلطة بالقول: “من أصل 150 بيت وعائلة بالقرية ما بقي غير ثلاثة بيوت. رحلوا وتركوا لنا ذكرياتهم”.
فيما أكّد “سليمان اليوسف” في ختام حديثه: “دخلت دول المنطقة في حروب أهلية وداخلية مفتوحة وطويلة، ما يهدد وجود الأقليات والمطلوب توفير الحماية الدولية وإلا سنرى شرقاً من غير آشوريين ومسيحيين ومن غير اليزيدين، لأنهم سيبحثون عن أوطان بديلة توفر لهم الأمان والاستقرار والمستقبل لأجيالهم”.
صحفي سوري، عمل مراسلاً لعدة وكالات دولية وكتب في صحف عربية وغربية ومواقع سورية.