أشهر طويلة من العمل والخلافات والمصالحات والزعل والضحك وتلقي الأخبار وتبادل العزائم على وجباتنا الشعبية المفضلة والوعود باحتفالات ساحة الحرية. لا أعرف اسمه ولا ملامحه.
أتخيله في بدايات العشرينات من العمر، لطيفاً وحميماً، سريع الغضب وسريع الابتسام، كثير الأسئلة حتى ليضطرني في كل مرة إلى أن أرجوه “ابني بكفي نق.”
وهو في ذلك كله لا علاقة له بالإسم الذي وصلنا بالأمس لشهيد شاب قضى تحت التعذيب. حسن الأزهري لا أعرفه. كسواه من عشرات الأسماء التي تمر تحت أصابعي يومياً على شاشة الكمبيوتر وأنا أوثقها.
صديقي الصغير إسمه كولد ماونتن. اخترت له اسمه بناء على طلبه. اسم شتائي، وجبلي، بعيداً عن أجواء مدينته الساحلية، اللاذقية. صديقي الصغير كولد اختفى، وعبثاً أحاول مطابقة شخصه مع حسن الأزهري الذي قضى تحت التعذيب، وطبعت نعوته من غير حتى لفظة شهيد، وسيقام له عزاء تقليدي، من غير تشييع يليق بما ارتكبت يداه من فعل الحرية والتحريض عليها والعمل لأجلها طيلة شهور الثورة.
اعتقل كولد في الثالث عشر من نيسان/أبريل الماضي. لم أفعل شيئاً من أجله. لم أوثق حتى اعتقاله. لم أسأل عن اسمه. كان يجب أن يموت كولد حتى أدرك حجم الموت الذي انتابني بدوري ببطء وتسلل إلي كالسم، في كل يوم يقضم جزءاً من احساسي بالحياة والأحياء.
وماذا بعد توثيق الإسم بعد الآخر، وتوجيه النداء بعد الآخر؟ أعمل كحفار القبور الذي اعتاد دفن موتاه وهو يتثاءب، وعرض نعواتهم في متحف المنظمات الدولية. لماذا يحرص المجتمع الدولي على توثيق ما يشهد من جرائم تحت أنظاره؟ لماذا يهتم المجتمع الدولي بهذا التنظيم وتلك الدقة في رصد أنَات الضحايا وتحنيطها في أرقام وشهادات وجداول؟ لماذا علي أن أستمع مرة تلو الأخرى إلى شهادة معتقل يروي كيف تعرض للدعس والتمزيق والتشويه والحرق، كيف قفزوا على رأسه أو قلعوا أظافره أو سلخوا جلده أو شاهدوا قطع لحمه تتناثر إثر ضرب سياطهم؟ وتسجيل ذلك كله وفقا “لقواعد الرصد والتوثيق” المعتمدة، وتطييره في أجواء العالم المتحضر كي يأسف لحالنا ويدعو لنا بالخلاص! كي يبارك مهنيتنا، ويعرض علينا المزيد من التدريب. نحن مرتزقة الحرية، بنظره، نحتاج إلى قواعد أكثر، إلى أن نخجل من أنفسنا، لأننا لسنا متمدنين كفاية، لسنا لا طائفيين كما ينبغي، وليست لدينا مناعة كافية ضد التطرف، ولا نحسن نظم أنفسنا في معارضة موحدة. تباً لنا.
يا كولد ماونتن، نحن المتطفلين على الحرية، حين نؤرق سمعهم بصوت تهشم عظامك.
لم أسأل عن اسم كولد أو تاريخ اعتقاله أو ظروفه. مضى كغيره… بكرة بيطلع أو ما بيطلع… أبواب السجن لا تنغلق على أحد، لكنها تنفتح عن جثامين في أحيان كثيرة. وكولد كان لطيفاً ورقيقاً، يكره فكرة أن يقع بين أيديهم، يدعو ربه أن يموت برصاصة أو قذيفة. في بلادي، الموت السريع امتياز. وحين نتواعد عبر الانترنت على اللقاء في ساحات الحرية، نعلم أننا نقول ترهات، لأن كولد لن يبقى ليفي بعزيمة الفلافل التي وعد بها. بدلاً من ذلك سننعيه ونندم أننا لم نعرف اسمه إلا ضمن قوائم الشهداء، ولم نشاهد ملامحه إلا من أجل التوثيق، ولم نجب على أسئلته المتدفقة كما ينبغي. شاب سوري صغير مثله في الرابعة والعشرين من عمره، أمامه العمر كله ليتساءل ويكتشف. هكذا تقول مدونات حقوق الانسان ومبادئ المجتمع الدولي. العمر كله، وليس اختصاره بخبرة زنزانة وسياط جلاد وعالم يحدق بألمنا بوقاحة يا كولد ماونتن.
ولتعلم أن هذا ليس نعياً، هذه فقط تتمة محادثة لم تنته قط، وتبادل في الأدوار، حيث أسأل وأسأل وأنت تقاطعني بأنصاف الإجابات، وأستمر بالسؤال حتى توقفني بكثير من النزق وأنت تقول ”بكفي نق.“
محامية وناشطة سورية في مجال حقوق الإنسان. شاركت في الثورة السورية عام 2011 وكانت من مؤسسي لجان التنسيق المحلية التي نشطت في تنظيم الحراك السلمي في الثورة السورية، حاصلة على عدة جوائز عالمية في مجالات حقوق الإنسان وحرية الفكر.
مارست عملها الانساني في ريف دمشق دوما وفي نهاية عام 2013 اختطفت مع ثلاثة آخرين من زملاءها (سميرة الخليل، ناظم حمادي، ووائل حمادي) من قبل الجماعات الإسلامية التي سيطرت على مدينة دوما.
رزان من مؤسسي مجلة طلعنا عالحرية وظلت حتى اختطافها من محرري المجلة الأساسيين.