هكذا تموت الذكريات! حين يمسك أحدنا بالفأس ويضرب عنق الحب فيقطع رأسه، ويهيم الآخر متسخًا بدموعه الكثيرة؛ ينظر إلى قلبك المصنوع من الخشب ويفكر ماذا يصنع الآن، وكيف سيتخلص من التحف التي صنعها لك، وصورنا التي علقها في كل زاوية من العالم، وأصنامك التي عبدها ناسيًا أنك في النهاية من حجر، وكلماتك التي حفظها على كثرة ما رددتها عليه، والتفاصيل التي عاش فيها طوال ثلاثة أعوام وكلما كان يغرق فيها كنتَ تخرج منها وتترك له الوهم خلفك. هكذا تموت الذاكرة! لا بطلقة مسدس، ولا بطعنة مباغتة حين تستل سيفك لتغرزه في صدر الحكاية. تموت شيئًا فشيئًا، خيبة وراء خيبة، وساعة بعد ساعة، ورصيفًا تسلكه بعد رصيف؛ وحين نراها على سرير الموت نشهق من الصدمة؛ وكأننا لم نختبر النهايات قبل اليوم.
هكذا تموت الذاكرة! حين أسألك عما حدث قبل عامين فتجيب باقتضاب من لا يتذكر، أو لا يبالي! الذاكرة التي تتألم لا تنفع معها المسكنات ولا يسكت صراخها مخدر. والذاكرة التي انشق قلبها من امتلائها بنا لا ترتقها إبر الخياطة ولا تصلحها مشارط الجراحين. والذاكرة التي تنهشها محاولات النسيان الكثيرة للخروج على طغيان عاشق جاحد يقتلها في النهاية سرطان الكره الذي يصيب الحب ويأكل خلاياه بقرف من لم يعرفه لينقذ في النهاية جسدًا سليمًا للتراب المنتظر.
أنت لم تحبني قط! ربما أحببت قبلي امرأة كانت تحمل اسمي نفسه وهجرتك فاعتقدت أنك قد تحييها فيّ وأنا صدقت حيلتك، أو ربما أخطأتُ في العد إذ كنتُ أتلمس أضلاع صدرك حين مارسنا الحب لأول مرة؛ فاعتقدتُ أنك اكتملت بي، وأن الضلع الذي كان ناقصًا عاد إلى مكانه سالمًا وخدعني ظلام الغرفة. أنا ما اخترت أن أحبك قط! لكن الحب جرني من قدميّ العمياوين وقادني لأقع بين ذراعيك فريسة لأنياب غرورك الحادة كسكاكين اللصوص التي يحملونها لإخافة ضحاياهم؛ غرورك الذي كان صغيرًا وكبر على يديّ، ربيته كما ربيت الريح على كتفيك، وأرضعته روحي التي كانت تضمر كلما طال شبرًا، علمته المشي والركض حتى لم أعد أستطيع اللحاق به، وحين أصبح رجلاً هجر أمه وغادر حزنها.
أنا الغريبة يا غريب، لا يوجعني غدرك، بل يشطرني امرأتين؛ إحداهما تلتمس لك العذر والأخرى تضمر من القهر. لا يقتلني ظلمك، لكنه يشظيني كلوح زجاج سقط لتوه من علو وتناثر على البلاط الأبيض جارحًا حتى نفسه. أنا الغريبة يا غريب؛ تزوجت طيفك البكر وأنجبت منه أمنيات كفيفة لم تر النهار يومًا، ولم تهمس في أذن الشمس بأسرارها أو أسمائها.
ثلاث سنوات بلياليهن حفظت فيها أسماءك وأحلامك وساعات نومك وأصدقاءك ووجوه البنات اللواتي تغازل فتنتهنّ والسراب الذي تسابقه ولا تصل! ثلاث سنوات عرفت فيها كيف يصبح الغرور بطولة، والقسوة رجولة، والتخلي نجاة، والعاطفة ضعفًا، والحب خرابًا. ثلاث سنوات مرت وكأن عمري قبلها كان حكاية يرويها لي الآخرون فأبكي تارة وأضحك تارة، دون أن أعي الصلة التي تربطني بها أو أعير اهتمامًا لتفاصيلها.
لا تكمن الذاكرة في المواعيد والأماكن، ولا في أشياء يخزنها العقل ويحتفظ بها ليواجهنا بها. الذاكرة روح تتعرف إلى روح أخرى وتميزها. الذاكرة رائحة تعرفها أنفاسنا في زحمة روائح أخرى كثيرة. الذاكرة خيط رفيع شفاف لا يُرى، يربطنا بالآخر ويوصلنا إليه كلما فقدنا الطريق. الذاكرة آثار أصابع أحدهم على أجسادنا، لا يمحوها زمن ولا يوقف النزيف الذي خلفت كيٌّ أو حريق. الذاكرة رجل وامرأة يتبادلان في كل قبلة أعمارهما السابقة؛ وحين يهجر أحدهما الآخر يذهب وحده ويترك كل ما حدث قبل الآن شاهدًا على مروره، وخنجرًا مسمومًا في ظهر المهجور، لا هو يقتله، ولا هو يقتل ما يعرفه عمن مضى.
هكذا تموت الذاكرة إذن! حين أضع حزنك في مزهرية أمام شباك غرفتي الوحيد، وأحبه حتى أنزعه من قلبك، وحين تبدد حزني بضحكات ساخرة وأصوات لا شكل لها، لكنها تصر على هزيمتي أمامك. هكذا تموت الذاكرة! حين أستيقظ باكرًا ذات صباح يربطني بك وأبكي، وحين ينتصف النهار وأنتظر، وحين يأتي الليل بلا رنين هاتف عابر أو رسالة نصية قد تعيد ترتيب الفوضى التي أحدثتها خيانتك، وحين أتناول حبوبي المنومة لأغفو دون أن يحدث ما يجعلني أطمئن إلى الغد، وأفسر أحلامي الكثيرة المتراكمة عنك ولا أخاف المعنى. إن امرأة لا تعرف حدود قلبها ستعبر به الأسلاك الشائكة وتعود دونه!
هكذا تموت الذاكرة!
حين نلعب الورق كل يوم ونلتزم بقواعد اللعبة ويصبح من الضرورة أن يخسر أحدنا حتى يربح الآخر. لنبتسم لصورنا القديمة إذًا، ونودع أنفسنا وابتساماتنا الواضحة، ودموعنا التي لم نخلدها بلقطة معينة، بل تركناها تنتظرنا خلف الكادر، وحبسنا صوتها في كواليس القلب، حيث لا يمكن أن نلتقي بعد الآن.
شاعرة وكاتبة ومترجمة سورية، من مواليد حمص 1980. عملت في الصحافة والترجمة في المواقع العربية. صدر لها مجموعتان شعريتان: نوافذها ورمال القلوب 2004، كلام الحدائق 2007. حاصلة على العديد من الجوائز الشعرية المحلية والعربية.