كل شيءٍ أنا..
رغبتك القاتلة في اقتناص الأطفال من رحم الوقت، عود الثقاب الذي تشعل به سيجارتك المتأنية وتتذكر أن تطفئه لكيلا يتسبب بحريق قد لا يكون عابرًا، الأحلام التي لا نجد ما يشبهها فنكتفي بظلال بريقها، وجه من وجوه نساء كثيرات عرفتَ أنوثتهن لكنك لم تلمسها، المساء الدافئ قرب امرأة تعرف أنها لن ترحل أبدًا، صمتك الدائم الذي أكسره بإشارات لحوحة فترممه بإجابات مقتضبة تعرف أنها لن تلون الفراغات البيضاء في روحي الباهتة؛ فأكتفي بالتذمر عادة وأتركك لصهيلك الداخلي، الدموع الغامضة التي تقهرني حين نكون معًا وأخبئها بين جفنيّ باحتراف كي لا تراها فأخسر مظهر الحب المناسب لفنجاني قهوة أو لصورة النشوة المناسبة لكأسين من النبيذ، فكرة البيت الواحد والسرير الواحد وطاولة الطعام التي نتقاسم جزءًا صغيرًا منها ونترك مساحتها المتبقية لصدفة أو مستقبل، الكذبة التي أغوتك بلغتها حين مللت انتظار الحقيقة، الطفلة التي ستهرم في يباس حزنك باكرًا وستبحث عن نفسك قبلها، الأغنية التي لم تأسرك موسيقاها يومًا لكن هزيمة ما أوقعت بك في فخ هذيانها وإذ بك تعيدها مرارًا وتحبها دون أن تنصت لها جيدًا، الأمومة التي لطالما تمنيتَها طفلاً فاعتقدت الآن أنها تناسب مقاسك كرجل ثلاثيني، البنت التي تكتفي بضرب المواعيد ولا تسألك لماذا خلفتها، أنثى الصبر التي أردتها بشدة لكي لا تكسر هدوءك أسئلة نسائية لا معنى لها، قطعة السكر التي لا تكفي لتجعل فنجان شايك حلوًا كما تحبه لكنها تستطيع أن تكسر المرار البنيّ في فنجان أبيض، نافذة تفرك زجاجها في الشتاء لترى ما تخبئه خلفها من الشوارع والمارة لكنك لا ترى سوى أعمدة النور المرصوصة باتزان تام وأبعاد متساوية تشعرك بالاطمئنان، المدينة التي تشتري فيها بيتًا لتسكن إليه حين تضجر من صخب المدينة التي تهوى، مطر لا يقنع رجولتك باجتياز الباب لتبلل ثيابك وروحك وتصرخ عاليًا كعاشق متطرف لكنك تحتاج اللون الأخضر الذي سيتركه خلفه لتغطي به يباس العمر.
كل شيء أنا… إلا جنون رجل لا يهدأ بامرأة استثنائية!
ذاكرتك الصبية التي لا تشيخ، والتي تحفظ تواريخك وأسماء الكتب التي أحببت وتضع عناوين قصائدك وترتب أوراق شرودك الخانق؛ لكنك ما إن تقفل أدراج عقلك وتتأكد من وضع المفاتيح في مكان آمن تهمّ بالنسيان، حقل الحزن الذي لا يفارق عينيك بعد أن توقفت عن الفرح، الوجه الآخر لعملة الموت الذي يشبه الحياة لكنه يضجُّ بأسماء الموتى وصورهم، الأسماء التي نفكر بها ونكررها لنختار اثنين منها لصغارنا فنختلف كثيرًا ونضحك من غبائنا واستعجالنا، الليل المتكئ على جسدينا في النصف الآخر من الأرض والذي لا يمكن أن يكون ليل دمشق الأزرق، الغربة الطيبة التي جعلت منك رجلاً آخر لكنها لم تستطع أن تمحو الرجل الأول من داخلك بعد، فكرة الدفء التي تراودك عن قدميك وأنت خارج من عملك باتجاه الحياة في يوم كانوني بارد الأصابع فتغير وجهتك وتذهب إلى البيت!
كل شيءٍ أنا إلا المرأة التي كانت هناك في برد الرصيف وارتديتَ من أجلها كنزتك الصوفية وكنتَ ستخون قدميك والمدفأة وتذهب باتجاه موعدها!
بين بيت تحبه وبيت تسكن فيه آلاف البيادر الميتة التي تعجز عن تجاهل يباسها وأعجز عن تخيلها صفراء كذهب العمر. لو مرة كتبت لي أغنية تغنيها الريح على وقع خطاي حين لا تكون معي.. لو أنك صنعت لي طائرة ورقية أتشبث بها حين أقف على أطراف أصابعي كي ألمس السماء.. لو ناديتَ الله بأعلى خوفك من النسيان لكي لا يصدأ قلبك من الحب المالح.. لو أغريت الوقت بحبة شوكولا ليكون أكثر كثافة من الفراغ وأكثر اتساعًا من مئذنة ريفية لصلاة..
لو..
لو كان كل شيءٍ أنا.. إلا شجرة خريفية تلوح بيديها العاريتين في هيبة وداع أبيض!
شاعرة وكاتبة ومترجمة سورية، من مواليد حمص 1980. عملت في الصحافة والترجمة في المواقع العربية. صدر لها مجموعتان شعريتان: نوافذها ورمال القلوب 2004، كلام الحدائق 2007. حاصلة على العديد من الجوائز الشعرية المحلية والعربية.