لعلّ أكثر ما يُشعر المواطن السوري الكردي بالمرارة الآن وأكثر من أيّ وقت مضى هذه الجوقة الإعلامية التي صاحبت محاولات تنظيم “داعش” السيطرة على مدينة كوباني –عين العرب – ذات الأغلبية الكردية، ولعلّ أقسى ما يحزّ في نفس لاجئي هذه المدينة المنكوبة هو التشفي الشبه علني من قبل بعض الأشخاص بالأخبار القادمة من مدينتهم المنكوبة على يد تنظيم أقلّ ما يقال فيه بأنّه عدو الثورة السورية وعدو للسوريين.
كنت أظنّ إلى فترة ليست ببعيدة أنّ الثورة السورية قامت بإعادة تشكيل للهوية السورية الممزقة، وكنت أؤمن بشكل أكبر أنّ من ذاق الويلات على يد آل الأسد وداعش سوف يكون من أوائل المتضامنين مع أي ضحية جديدة تتعرض للممارسات التي تقوم بها هاتين الجهتين المجرمتين، ولكن ما حدث ويحدث يقول ذلك ويدعونا إلى التفكير والمراجعة الجدّية حول مفهوم الهوية السورية الجديدة والتي بدأت ملامحها بالظهور إبان انطلاقة الثورة السورية عوضاً عن “الهوية السورية القديمة” والتي أعتقد أنّ معظم المراقبين والمهتمين بالشأن العام السوري يجمعون على وجود تشوهات كبيرة فيها، وكيف أنّ نظام الأسد اختزل العديد من عناصرها في شعارات فارغة واقتات على أكاذيب كثيرة ولفترات طويلة منها أكذوبة “حماية الأقليات”، حيث كانت تقوم إحدى ركائز هذه السياسة – التي أفرزت هذه الهوية – على منع أي تلاقي ما بين مكونات المجتمع السوري، وأدّت معظم المحاولات التي قام بها العديد من المعارضين الوطنيين السوريين بأصحابها إلى غياهب السجون لسنوات عديدة.
عندما انتفض الشعب السوري ضد هذا الظلم والطغيان كانت المدن ذات الأغلبية الكردية من أوائل المدن التي انضمت إلى ركب الثورة (قامشلو وعامودا وسري كانيه وكوبانيه ….) ولعّل المظاهرة الأولى التي انطلقت من أمام جامع قاسمو في قامشلو –القامشلي كانت بمثابة الصدمة الكبرى الأولى للنظام وأزلامه في المدينة، فقد فاجأ الشباب المتظاهر جميع المراقبين بالهتافات الوطنية التي صدحت بها حناجرهم هتفوا فيها لدرعا –مهد الثورة- واللاذقية وحمص –عاصمة الثورة- وعبروا فيها عن تضامنهم مع المدن الجريحة الأخرى، وكانت الملفت الأبرز – برأيي – هو رفع العلم الوطني السوري فقط (العلم الذي يستخدمه نظام الأسد حالياً) وأتذكر جيداً كيف أنّه وفي المظاهرات التي تلت المظاهرة الأولى تم رفع أطول علم وكان يبلغ طوله أكثر من خمس وعشرين متراً وكتب بداخلة كلمة الحرية (آزادي) باللغة الكردية، وأتذكر أيضاً كيف أنّ أحد الشباب الكردي الثائر كان يقول لنا متهكماً كيف أنّ أحد العناصر الأمنية – وبعد طلبه إلى التحقيق من قبل أحد الأفرع الأمنية – كان يقول له بكل “وطنية”: (ارفع علم كردستان وطالب بالانفصال والدولة الكردية وما تشيل العلم الوطني السوري وما تهتف لدرعا وحمص …..).
في الوقت الذي كان فيه “معارضو” الخارج يتسابقون على الظهور في القنوات الإعلامية ويتبارون في بيع الأكاذيب للشباب الثائر -وخاصة قبل البدء بتشكيل الأجسام المعارضة – كان النظام وتحديداً في المناطق الكردية يعمل بخبث وصمت مع العديد من الجهات (الكردية والعربية والمسيحية) على حدا سواء، ووضع نصب عينه الكثير من الأهداف التي أتت أُكلها لاحقاً، كان أولها محاولات إخماد الحراك الشبابي الثائر في المدن الكردية –خاصة بعد انضمام العديد من الشباب العربي والمسيحي إلى هذه المظاهرات – وتجلّى ذلك بشكل عملي في الملاحقات التي قام بها ضد القيادات الشبابية وزجّ بعضهم في السجون إضافة إلى نفي بعضهم الآخر، وكانت بعض الأطراف الكردية الأداة غير المباشرة لتحقيق هذا الهدف الأول خاصة من خلال وصم هؤلاء الشباب بعملاء أردوغان تارة والإسلاميين والإخوان المسلمون تارة أخرى.
كانت هذه الأعمال المنافية لقيم الثورة تتطلب حاضنات شعبية لترويجها، ولم يكن من السهولة بمكان على هذه القوة المتحالفة مع النظام بشكل خفي –في البداية – أن تقوم بهذه الأعمال دون اللعب على أوتار معينة، أو استغلال حاجات الناس اليومية الأساسية، وتجسّد هذا الشيء في إعطاء النظام صلاحيات توزيع مواد أساسية لحزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي) مثل مادة الغاز والمازوت والخبز، ولعلّ جميعنا يعرف أهمية هذه المواد في حياة المواطنين وتحديداً مادة المازوت في المنطقة الشرقية حيث يعتمد معظم المزارعين على هذه المادة في عملية استخراج المياه الجوفية وسقاية المحصول الزراعي منه، وكان ذلكم المدخل الأول للبدء في شراء الذمم وتخيير المواطنين ما بين مساندة الحراك الثوري “وعدم الحصول على شيء” أو التزام الصمت أو/و تأييد هذا الحزب حتى يخولك ذلك الحصول على ما تريد، وقد عقب ذلك سماح النظام لهذا الحزب والعديد من المليشيات العربية الأخرى بنشر حواجز عسكرية في مداخل المدن لتتطور الأمور لاحقاً إلى السماح بإنشاء كتائب مقاتلة نظامية تحت مسمّيات مختلفة.
كانت أحداث مدينة سري كانيه (رأس العين) بداية الشرخ الحقيقي ما بين الجسمين العربي والكردي ضمن الحراك الثوري السوري، والذي تجلّى بشكل أوضح في تلك المعارك التي خاضتها قوات الحماية الشعبية (ي ب ك) وتنظيم داعش إضافة إلى تنظيمات إسلامية أخرى في عدة مدن ذات الأغلبية الكردية في منطقة الجزيرة السورية، وسط صمت شبه مطبق من “الممثل الرسمي” للثورة السورية “الائتلاف الوطني” وجاءت أحداث مدينة كوباني (عين العرب) بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير بين هذين الجسمين، ولعّل توقيت الهجوم من قبل داعش والذي جاء إبان ما سمّاه بعض النشطاء “العدوان” السافر على سوريا قد لعب دوراً مهماً في “المعارك الإعلامية” التي صاحبت هذه الأحدث، فعلى ما يبدو قد حازت داعش على تعاطف مضمر من قبل العديد من النشطاء تحت مسميات وأسباب مختلفة كان أوضحها “التغاضي عن إرهاب النظام وضرب داعش”، وأياً كانت الأسباب التي أدّت إلى ما أدت إليه فإن دعاة الهوية السورية الجديدة، سوريا الثورة، دولة القانون والمواطنة والمؤسسات المنشودة مطالبون الآن أكثر من أيّ وقت مضى بالوقوف بشكل إنساني أولاً ووطني صرف ثانياً، أمام مأساة مئات الآلاف من المواطنين الكرد السوريين الذين أجبروا على الخروج من بيوتهم وتمّ تهجيرهم قسراً كما فعل قبل ذلك نظام آل الأسد مع عشرات المدن والبلدات والقرى السورية الأخرى، ومطالبون أيضاً بقطع الطريق أمام أزلام وشبيحة داعش في الثورة السورية، وتعريتهم، وبالمقابل المعرفة الكاملة أنّ الكرد السوريين كانوا من أوائل ضحايا حزب الاتحاد الديمقراطي والذي أفرغ المنطقة الكردية بشكل ممنهج من النشطاء وخصومه السياسيين ونفى معظمهم إلى كردستان العراق، وإنّ الوضع في مدينة كوباني أخذ رمزية كبيرة رأى فيه عدد كبير من الكرد حول العالم معركة وجود مصيرية خاصة وأنّ دماء كرد “شنكال” من أبناء الديانة اليزيدية لم تجف بعد تعرضهم لعمليات تطهير عرقي واضحة على يد هذا السرطان الذي تسلل إلى سوريا بمباركة ومساعدة أطراف سورية وإقليمية ترى نفسها الآن في ورطة كبيرة تحاول استغلال معاناة أهل هذه المدينة السورية الكردية بأبشع الصور للتغطية على فشلها الذريع والفاضح من التعاطي مع هذا التنظيم.
*المتحدث الإعلامي باسم مركز توثيق الانتهاكات في سوريا
المتحدث الإعلامي باسم مركز توثيق الانتهاكات في سوريا