مجلة طلعنا عالحرية

كان علينا جميعاً أن لا نغادر أرض المعركة

الساعة الرابعة فجراً. أفكر كثيراً في استحضار ذلك الرعبّ، لكنه رعبٌّ لا يشبه شيئاً آخر. الصواريخ البالستية تنطلق من البوارج الروسية لتسقط كقذائف الهاون. الراجمات والطيران والمدفعية تشعل الأرض. الأجساد تتمزق. إنه هول القيامة. يقول لي: “جسدي مازال هشّاً من أثر الإصابة. المعركة ستبدأ بعد قليل. عائلتي كسروا ظهري. ماذا سنفعل يا خاي؟”.

عند الفجر ستتهيأ مجموعة لصدّ الهجوم. أنا أعرفهم، أكاد ألمح وجوههم الواجمة أمامي. ذهب الجميع وظلّوا يدافعون عن أحيائهم. خمس سنوات مضت منذ أن أعلن الرئيس فيها عن المعركة. ومن يومها مازالت المعركة مستمرة.. تسقط الأحياء الواحدة تلو الأخرى. بدأت المعركة منذ خمس سنوات. أستطيع تحديد تواريخ كثيرة كان الرئيس يُعلن فيها المعركة، لم يكن هنالك لبس فيها؛ فالنظام اختار السلاح منذ اليوم الأول الذي أطلق فيه الرصاص على المظاهرت.

القلم سلاح في المعركة! الكاميرا سلاح في المعركة! الموسيقا سلاح في المعركة! الرقص سلاح في المعركة! المنظمات سلاح في المعركة! السينما سلاح في المعركة! الدراسة والسفر والتخطيط للمستقبل سلاح في المعركة! الحب سلاح في المعركة!

هل جربت المعركة؟

لا شيء يشبه رعب الرصاص حين ينهمر قريباً. الرصاصة شيء غادر وسادي. يتكّ كعقارب الساعة التي تومئ للموت بالدنو منك. عميان، ينطلق الرصاص وينهمر. عميان الجهات، عميان الذكريات، عميان الروح ينطلق. برزخ من عدم يتحطم فيه الجسد مع الذكريات.

يتهاوى وينسلخ نسغ الدهشة التي لا تعود مع شلال الدم.

لا شيء يثير رعباً أكثر من طلقة تحفر حواف الجسد تخترق اللحم الطري كأفعى تزحف بصمت. يفح البارود في جسدك ويشعل الأوردة.

انظر نحو حواف الجلد المهترئ ونافورة الدم التي تسيل. الطلقة عندما تخترق الجسد بهذه الخسّة تثير الرجفة في الركب.

“الحصار مرير” يقول لي. “نحن نعيش الرعب، لماذا تُركنا وحدنا! ماذا يحدث؟ هل تستطيع أن تخبرني ماذا يحدث، لنستطيع أن نفهم ماذا يجب أن نفعل؟”.

بعد قليل سيخرجون ليصدوا الهجوم. أقرأ الكثير من المقالات. أُجمل نفسي وأقول: سيمضى هذا الحصار. ستصمد المدينة! انظر من خلال الزجاج. هنالك فارق بين الفكرة والحقيقة. نحن نعيش فقط في أفكار. ثم أتذكر: ستكون درعا بعد حلب! ترى لماذا تشرذمنا في أصقاع الأرض نحن “الثوار”؟ لماذا تركناهم لهذا الاحتلال. كان الاحتلال احتلالين. اتذكر جيداً كيف أن المدينة تهاوت من الداخل، نُخرت كما ينخر السوس في الخشب.

“ ماذا سنفعل؟ خضنا المعركة معارك. كان لزاماً عليناً ان نخرج في المظاهرات، وأن نضرب وأن نعتقل ونقتل، ثم تقصف بيوتنا وحاراتنا، ثم كان لازاماً عليناً أن ندافع عن المدنيين وعن الشبيحة الجالسين في المناطق المحررة وعن الجيش الحر، وان نجابه النصرة وداعش والمتطرفين والخونة والعملاء والمنظمات! خضنا هذه المعركة يا ابن عمي وحدنا وها هي المدينة تحتل أمام أعيننا”

احتلّ البلد منذ أمد بعيد. تعبر البوارج الروسية من خلال المضائق وترسو في شواطئ اللاذقية. ناقلات الجنود تطوي السهول لتنقلهم إلى الجبهات. تنصب الصواريخ. تتهيأ المليشيات وتحتشد. يتنقل الجنرالات ويضعون الخطط. هؤلاء محتلّون يحشدون أعوانهم. غزاة مروا أمام أعيننا، ونحن نتحدث عن السينما وعن السياسية.. عن الإعلام. نلتقي ثم نشتم بعضنا ثم نكيد لبعضنا في الخفاء ونختبئ في الوجوه بابتسامات خبيثة. نبتسم للكاميرات، ثم ننوح بشكل جماعي. ثم نرقص نغني نضحك، نضاجع، وننام لنحلم!

منذ زمن لم أتحدث مع أخي في الجنوب. يقول لي مازحاً: “أشعلتم الثورة ثم ذهبتم وتركتمونا وحيدين في المعركة!” أخي في الجنوب يتهيأ لصدّ الهجوم أيضاً. ينقطع الاتصال. ماذا سيحدث؟ تتقدم قوات النظام بثبات! تنهار الخطوط الدفاعية. نستدير وراء الخرائط ثم نحدد سير القوات. نراقبها عبر الأقمار الاصطناعية وعبر الانترنت. نحلّل بذكاء حاد ثم نكتب نصوصاً مؤثرة عن المجزرة، نجمع الصور في المعارض. نتنافس بخسّة حول شرف التعبير وتصوير المقتلة.

الضوء يقترب. ينتشل نفس الليل وينتشل أنفاسي. لا بد أنهم يستعدون للخروج في الاقتحام. أمس امتلأت الطرقات بالجثث. عقارب الساعة تتحرك ببطء. منذ خمس سنوات بدأت المعركة. الرئيس قال: من أراد المعركة فنحن مستعدون لها. لكننا لم نعي ماذا تعني المعركة، لقد آثرنا الخروج كما آثر الكثيرون الصمت في المظاهرات أو الفرجة. يذهب صوتي.

تغص حنجرتي. أريد الصراخ. أختنق في صوتي واحشرج. أعن كبقرة تساق للذبح. أتكور على نفسي كجنين .. أبكي، ثم ابكي ثم “ابكي حلماَ مضاعاً لم نحافظ عليه”*

لقد خرجو ربما. أنا أحدّق في شيء ما. أفكر لابد أن أصوغ تحليلاً متكاملاً لما حدث. ما هي أخطاؤنا؟ أفكر: كيف تركنا كل ذلك يحدث؟

الساعة تتوقف. الرصاص الآن يخترق اجساداً كثيرة. المطر ينهمر. الجثث تفيض. هنا عبرت هذا الطريق. هنا تقاسمت الضحكات. هنا أشعلنا القمر في الغناء في عتمة القصف. هنا بكينا على أعمارنا وهتفنا. هنا من وراء الشاشة تنهمر الذكريات كما ينهمر المطر.

يتصل صديقي من بلاد بعيدة

ماذا علينا أن نفعل؟

ماذا كان ينبغي أن أفعل؟

يسود الصمت..

الوجوه واجمة مثل غلس الليل. الصواريخ البالستية تسقط كالهاون. الأنين ينعق في الطرقات أجيبه:

*كان ينبغي جميعنا، أن لا نغادر أرض المعركة.

* اقتباس من عبارة قالتها أم ابي عبد الله الصغير عندما شاهدته يبكى سقوط الاندلس.

Exit mobile version