قصة قصيرة – زياد خداش
لن أنسى “هاشم” و”فؤاد” صاحبي أشهر محل فلافل في مخيم الأمعري.. ارتبط اسمهما بي ارتباط رائحة فلافلهما المذهلة في أوائل السبعينيات بقلبي قبل فمي. كنت طالبا في المرحلة الابتدائية بمدرسة الأمعري الثانية برام الله، كانت المدرسة قد تعاقدت مع هاشم وفؤاد على بيع ساندويشات الفلافل لطلاب المدرسة الثلاثمئة.
في (الفرصة) استراحة التلاميذ الأولى، كان هاشم وفؤاد يقفان في ساحة المدرسة الواسعة أمامها كراتين ممتلئة بالساندويشات اللذيذة، المضغوطة على حبتي فلافل وقطع بندورة مغمسة بالطحينية وقليل من الشطة، بانتظار هجوم الأفواه بعد ثلاث حصص من الأوامر والضرب والصراخ والتفتيش. لم يكن هناك نظام طابور أمام ملاكيّ أفواهنا، كنا نتجمع فوق بعضنا البعض بالمئات أمامهما وخلفهما وبينهما مادّين أيادينا الصغيرة بالليرة المعدنية.
كانت فوضى عارمة.. غير عادلة أبداً، هناك من كان عاجزاً عن الوصول للكراتين، وهناك من يصل دون أن يدفع، عن قصد أو بسبب التدافع.
بعد فترة حدث شيء غريب لي؛ ما أن يرن جرس (الفرصة) كنت تلقائياً أدخل يدي في جيبي لأخرج الليرة ولا اجدها! باكياً كنت أرتمي تحت المقاعد باحثاً عن ليرتي.
حدث هذا أكثر من مرة، وكنت أضطر لجوعي الشديد وعشق قلبي لساندويشات هاشم وفؤاد إلى أن أندس بين المئات من التلاميذ، مادّاً يدي المفتوحة وأنا أصيح: “أعطيتك عمي.. أعطيتك.. والله أعطيتك!” فأحصل على الساندويش وأهرب إلى آخر الساحة، ألتهم خديعتي وأنا أرتجف خوفاً.
عشرات الساندويشات حصلت عليها بهذه الطريقة، وكان لغز ضياع نقودي محيراً بالفعل، لي ولأبي وللمعلمين.
أكثر من أربعين سنة مرت على خداعي وارتجافاتي وساندويشاتي المذهلة.
كان شعوري بالذنب ينمو بهدوء كلما رأيت ابن هاشم، الذي كان عندي طالباً في المدرسة التي كنت أعلم فيها الطلاب صدقَ الإحساس والتصالح مع النفس وعدم الخداع.
قبل سنة واحدة فقط كنت أصافح صديقاً لي كان يعمل وكيل وزارة سابق، وكان صديقي وزميل مقعد واحد في المدرسة:
“كيفك أبو الزوز. اسمع.. بدي اعترفلك بشغلة.. مبارح كنت أنا ومرتي نلعب لعبة الاعترافات. فاعترفت لها أني كنت أسرق مصاري الولاد في المدرسة. أوعَ تزعل هههههه”! ووضع ضاحكاً في يدي العشر شواقل التي سرقها مني، ومضى وضحكته تأكل شارع السهل.
ودون أن أفكر أسرعت إلى حيث يعمل طالبي المؤدب ابن هاشم، وضعت في يده العشر شواكل، حاكياً له القصة بالتفصيل.
خرجت من عند الطالب إلى (فلافل عبده) اشتريت عشر ساندويشات، وأمام الناس أسرعت في التهامها دون ارتجاف.
في الليل وصلتني رسالة من صديقي وطالبي ابن هاشم:
“أستاذي الجميل، لأنك علمتني الصدق في كل شيء والشجاعة في مواجهة العالم بالحقيقة، سأروي لك الحكاية التي سردها أبي لي ولأشقائي قبل موته. أبي وزميله فؤاد كانا يعرفان من أعطاهما النقود ومن لم يعطهما من التلاميذ، لكنهما كانا يدعيان عدم المعرفة تعاطفاً منهما مع التلاميذ غير المقتدرين، وحين ألححنا أنا وأشقائي على أبي لذكر أسماء التلاميذ الذين كانوا يغشون، رفض أبي أن يفصح، لكنه قال لي جملة غريبة يا أستاذي أريدك أن تعينني في تحليلها:
“لقد أعطاك أحد هؤلاء الغشاشين الصغار أضعاف ما أخذ مني””!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج