مجلة طلعنا عالحرية

قلمي مسمار صدئ

74325_10151613250823066_1892571059_nلم يتابع الكثيرون في الداخل السوري أحداث العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، بعضهم لم يكن مهتماً، وبعضهم كان مشغولاً بمتابعة حياته ــ إن جاز تسمية ما نعيشه حياةً ــ، وبعضهم منعته ظروف الواقع من متابعة ما يجري، فيما آخرون فضلوا الاهتمام بمآسيهم، وبما يقع عليهم، وعلى وطنهم من عدوانٍ على يد محور ‘‘المقاومة والممانعة’’، ذاك المحور المكون من نظام الأسد، وحلفائه الإيرانيين، والعراقيين، واللبنانيين، وغيرهم من بعض أدعياء القومية، واليسار، والحداثة، هذا مع أن معظم جمهور ذلك المحور كان يتابع الحرب الإسرائيلية على غزة، ويحدوه عظيم أملٍ في أن يلقن ‘‘العدو’’ الإسرائيلي حركة المقاومة “حماس”، درساً يجعلها تندم على قرارها بعدم مساندة القطب الرئيس في المحور ــ نظام الأسد ــ في مقاومته، وممانعته للشعب السوري.

شخصياً، منعني من متابعة العدوان، دون امتناع اهتمامي، وتعاطفي أمران، الأول، كان انقطاع التيار الكهربائي المستمر، الذي وضعني فعلياً خارج حدود معرفة ما يقع، والثاني، انشغالي بمجريات العدوان السوري، وأمر آخر ربما، تمثل في معرفتي السابقة، وتوقعي المسبق، لوقائع العدوان الإسرائيلي، ومآلاته، لذلك تجنبت التعليق على ما يقع هناك، علماً بأن ما جرى ويجري في غزة وفلسطين عموماً، غنيٌ عن أي شرحٍ، أو إيضاح، بيد أن ما يقع لدينا هو ما يتطلب كل ذلك، بل وما هو أكثر من ذلك، حيث تستدعي تطورات الأحداث، وتقلباتها المتسارعة منا، نحن المعنيون بها، والمنخرطون فيها، والخاضعون لآثارها ونتائجها، جهوداً استثنائيةً فكريةً، وجسديةً، وعاطفيةً، ونفسيةً، فالصمود في وجه صنوف الموت اليومي مضنٍ، والاستمرار، والمقاومة شاقةٌ، ومحاولات التكيف، في ظل اضطراب المشاعر وتخبطها، وتبدل المفاهيم، والأفكار وتصارعها، تستنزف ما بقي لدينا من وعيٍ، وإدراكٍ، وأحاسيسٍ.

لكن، يبدو لي ربما أن أكثر شيٍ متعبٍ، ومتطلبٍ، ومؤلمٍ أيضاً، هو اضطرارنا الدائم لإثبات صحة قضيتنا، والدفاع عن وجاهتها، وأحقيتها، فللأسف لم ننجح حتى الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات في تقرير أن أفعالنا كانت ثورةً، ولم نفلح في البرهنة أن مفهوم الثورة هو من المسلمات العقلية، والإنسانية، ولم نستطع تحويل ثورتنا إلى قضيةٍ عامةٍ تحوز القبول، والاعتراف، ولم نتمكن من إنتاج خطابٍ واعٍ، منطقيٍ، ومتماسكٍ، يقنع العالم بالاستجابة لنداء واجباتهم الأخلاقية، والإنسانية.
حيث يكون الاستبداد، والفساد، والظلم، والتخلف، والقهر، والموت، يجب أن تكون ثورة..

لكن في واقعنا لا يبدو أن توفر كل تلك الأسباب، كانت تكفي لمنحنا الأهلية، والاستحقاق للقيام بواحدةٍ، وفضلاً عن ذلك، كنا ولا نزال مضطرين لتبرير أفعالنا، وتسويغ أسبابنا، والدفاع عن حراكنا.
قلمي مسمارٌ صدئ..
وحبري هو دمي الممزوج بسخام المدخنة..
كان ذلك مطلع رسالة الدكتور “مانيت” نزيل سجن “الباستيل” في رواية الكاتب “ديكنز”، ‘‘قصة مدينتين’’، لاحقا،ً استغل ‘‘ثوارٌ’’ رسالة “مانيت” تلك، كدليلٍ لإدانة رجلٍ بريءٍ.
في سوريا يوجد آلاف، وملايين دكتور “مانيت”، ربما، وسرعان ما ستستغل رسائلهم المكتوبة بدمائهم، أيضاً، وثورتهم النازفة، لتجريمهم واتهامهم بتخريب بلادهم، وخلق ‘‘الداعشية’’، والإرهاب..!
تطلب الدفاع بدايةً، وفي المستوى الأول، لمقارعة ذرائع المؤيدين، الذين كانت حججهم تتمظهر على شكل تساؤلات غلافها ‘‘البراءة’’، وباطنها المراوغة والخبث، كتساؤلهم: كيف تثورون على رئيسٍ مقاومٍ؟ كيف تخرجون من المساجد؟ كيف تصيحون بالتكبير؟ كيف تستنجدون بالتدخل الأجنبي؟ كيف تحملون السلاح ضد النظام؟.

في المستوى الثاني تطلب الأمر الدفاع أمام العالم الخارجي، الذي سارع أكثره لاعتبار الحراك حرباً أهليةً، وصراعاً بين السنة والعلويين، وسعياً من قبل حركات الإسلام السياسي لركوب موجات التغيير، والوصول للحكم.
لكن في المستوى الثالث أصبح الأمر أعقد، فالثورة الآن مضطرة للتبرير، والدفاع أمام أفرادٍ، وجماعاتٍ أيدتها، وشاركت فيها سابقاً، قبل أن تغادرها، بعدما أسهمت بقسط كبيرٍ في إفسادها، واستغلالها.

بعدما اشتد الخطر، وارتفع مستوى، وحجم التضحيات المطلوبة، أدرك أولئك أنهم غير مستعدون للبذل، وتأكد لهم أن سقوط النظام بعيدٌ، وأن فرصهم في الوصول للسلطة، دونها مشاقٌ، لذلك فضلوا التبرؤ من الثورة، ولتجميل خيارهم، رفعوا أصواتهم بذرائع المؤيدين، من قبيل توسد السلاح، وتسيد الإسلاميين للمشهد، وطائفية مفترضة للثائرين، وأضافوا إليها حجة فشل الثورة في تأسيس نظامٍ بديلٍ، وظهور الانفلات، وانتشار الفوضى، وإجرام بعض الثوار و‘‘تشبيحهم’’، وأخيراً، ذريعتهم ظهور “داعش”.
ترى هل ينفع القول لأولئك، وغيرهم، أن الثورة بالأساس ليست نظاماً، ولا نموذجاً جاهزاً، وأن الثورة فعلٌ، وحركةٌ مستمرةٌ، وأنها سلسلة أحداث متفاعلة، وأنها استيلاد أنساق جديدة، وقطعٌ مع هياكل، وبنى. وتأسيس مفاهيم، وأنها قبل أي شيءٍ انشغالٌ بالواقع، لمحاولة فهمه، وتغييره؟

وهل يجدي أيضاً، القول: أن مسيو ومدام “دوفارج” المختلقان، و”روبسبير” الواقعي في الثورة الفرنسية، و”فلاديمير لينين”، و”ليو تروتسكي” مؤسس الجيش الأحمر، في الثورة البلشفية، قد مارسوا ‘‘داعشية’’ القتل، والتهجير، والسجن ضد الآلاف من خصومهم، ومناوئيهم؟ وهل ينفع التذكير أن تلك الثورتين استمرتا لسنين طويلة، وأدتا إلى تدمير، وتخريب البلدين، قبل أن ينهضا من جديدٍ، وقبل أن يتضح أن تلك الثورات قد غيرت وجه العالم؟
ماذا نفعل إن كنا قد استنجدنا مراراً بقوى العالم الحر، فأعرض الجميع، واستجاب الجهاديون؟ لكنهم أردوا تحويل ثورتنا إلى حربٍ مقدسةٍ لإقامة الخلافة؟
هل كان ذلك ذنبنا؟ وهل حقاً نحن الملومون؟

بيد أن قدرنا ربما، أن يكون انعتاقنا وتحررنا، محكوماً بممرين إجباريين للموت، ‘‘النظامي’’ و‘‘الداعشي’’، وعليه، قد يكون الموت مآلنا الأخير، فهل نتوقف ونرضخ للنظام، أو نسير في ركب ‘‘داعش’’ ؟
والآن يقرر قادة العالم أن يجهزونا لمحاربة “داعش”، التي تسببوا في إيجادها، لا لأنها تقتلنا، بل لأنها باتت تهددهم.. هل توجد ‘‘داعشية’’ أكثر من هذا؟

الأسبوع الماضي سألني “عبيدة”، الذي خبر مقاتلي ‘‘الدولة’’ في جرود القلمون، إن خُيرت بين النظام و”داعش” فمن سأختار؟، أختار “داعش”، أجبت..
خيرني أيضاً، بين “داعش” و”زهران علوش”، مجدداً، اخترت، “داعش”. هذا اختيار العدم..
بيد أنني أفضل قطع رأسي، تطهيراً للذنوب، أو تطهيراً للأرض مني، على العيش في ظل النظام، أو تحت حكم من يضاهيه سلطوياً.
ولا شك أن كل ما يعرضه الواقع الآن لا يتجاوز الخيارات العدمية. بعد هذا، هل من وجاهةٍ للسؤال عن الثورة، أو عن فشلها، أو انتصارها؟

أقلامنا مساميرٌ صدئةٌ

وحبرنا هو دماؤنا الممزوجة بسخام العمر المحترق

وألواحنا هي أشلاء أصدقائنا التي مزقتها صواريخ الطائرات

وفضائنا هو صدور أطفالٍ امتلأت بالسارين والكلور..

ولا شيء يبدو بعد، أنه يهم أكثر..

Exit mobile version