يرى كثير من المسلمين الحداثويّين (إن صحّ الوصف) أنّ علينا أن نحدث قطيعة مع كل النزعة التراثية الماضوية، سيّما المفاهيم التقليدية التي تقسم الناس إلى مؤمن وكافر، أو التي تفرّق ما بين فرقة ناجية وفرقة ضالّة ..
في الواقع إن الفرز بين الإيمان والكفر، أو الهدى والضلال، ليس مجرّد نزعة تراثيّة ماضويّة أو محض مفاهيم تقليدية، بل نزعة قرآنية أصيلة من صميم الخطاب الإلهي.. نعم، هي كذلك، حتى وإن شكّلت حرجاً للبعض في تعاملهم مع النص القرآني، فلا تكاد تخلو سورة من كلامٍ في ضوابط الإيمان وصفات الكفر والكافرين أو من تحذيرٍ من الوقوع في الشرك، أو من أمرٍ بتبليغ هذه المفاهيم القرآنية إلى الآخرين، وعلى رأسها مفاهيم الفرز نفسها..
وحين يحدّثنا القرآن عن الكفر، فإنّ المعني بالكلام ليس الأشخاص وإنما الأفكار والسلوك، بحيث أن خطاب الكفر والإيمان سيكون خطاباً عامّاً موجّهاً للمؤمن بالقرآن وللكافر به بنفس القدر.. التحذير سيكون للمؤمنين بالانتباه لمسائل الشرك لتجنّب الوقوع فيه.. فهو يحدّث عن الشركيّات التي قد تتداخل مع الإسلام.. وسنجد أنّه يوصّف أحوال الكافرين به بما لا يدع أي مجال للشك في الأهمية التي يوليها القرآن لمسألة الفرز بين الإيمان والكفر، بما يجعل تحييد هذه الجزئية عن رسالة الإسلام مسألة من الاستحالة بمكان.. والآيات كثيرة جداً في هذا السياق:
] وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون[ .
] الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين[
] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[..
يأتي الحرج عند شريحة واسعة من الحداثويّين اليوم عند التعامل مع قضايا الكفر والإيمان كنتيجة لعاملين رئيسيّين:
الأول: التطبيق الخاطئ لمسألة تبليغ مفاهيم الكفر والإيمان عند فئة من المتشدّدين الإسلاميّين.. هؤلاء عملوا على إنزال العقوبة بمن اعتقدوا أن صفات الكفر تنطبق عليه، متجاهلين أنّ العقاب الذي نصّ عليه القرآن هو عقاب أخروي وليس على الرسول إلّا البلاغ:
]إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ[..
وإذا كان هذا حال الرسول المبلّغ، فلا شكّ أن الأمر يتطلّب تواضعاً أكبر من أتباعه الذين يتوجّه إليهم الخطاب النبوي أيضاً بالتحذير من الوقوع بالكفر، إن أقدموا على ممارسات قد لا نعتبرها عقائديّة، إن لم ننظر في التحوّلات الفكرية والنفسيّة المرافقة لها، فعلى سبيل المثال يخاطب صلى الله عليه وسلم أتباعه قائلاً: “لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”..
وللالتفاف على هذه الآيات التي تدعو إلى التبليغ بالحسنى وترك أمر حساب الناس لخالقهم، لجأ أصحاب هذه الدعوات إلى اعتماد مقولات النسخ المتهافتة، والتي تدّعي أن آيات الدعوة والموعظة الحسنة قد نُسخت بآيات السيف.. هكذا وبدون أن يشعر هذا الفريق بأنّه أساء إلى القرآن، قام أصحابه بنسف ما لا يقلّ عن نصف القرآن!
العامل الثاني: تأثّر كثير من الحداثويّين بالمناهج غير الإسلامية، وبتصوّرات الآخرين عن الحياة.. فمن ضمن الأفكار التي قام عليها التنوير الأوروبيّ فكرة تحيّيد الدين عن الحياة العامّة والفصل بينه وبين الدولة للحد من التدخّلات الوصائية لرجال الدين المسيحي؛ حيث كانت تمنح قبل ذلك صكوك الغفران، ويتم إنزال العقاب من قبل الذين اعتبروا أنفسهم وكلاء الرب على أرضه وأصحاب الحق في إزهاق حياة الناس بناء على معتقداتهم.. هذه الثورة كان من نتائجها الحد من الكلام في مسائل الكفر والإيمان على اعتبار أنّها ستصل بالمجتمع إلى ما وصلت إليه مجتمعات ما قبل النهضة..
انتقلت هذه الحساسية من موضوع الكفر والإيمان، وهي حساسيّة غربيّة بتصوّري، إلى العالم الإسلامي من جملة المفاهيم التي جرت عولمتها باعتبارها ثقافة الأقوى ومفاهيمه، وتلقّتها تيّارات ترى أنّ الغرب أصبح بتفوّقه معياراً أعلى لقيم الإنسانية والحضارة ولتحديد موقفنا من الدين وفهمنا له..
ساعدت جرائم متطرفين إسلامين على تثبيت مثل هذه الأفكار، واقترنت مسألة الحديث في ضوابط الكفر والإيمان (التي بنى عليها قسماً هامّاً من التصور الإسلامي عن الحياة) بمسائل التكفير التي تتناول أشخاصاً بعينهم وتنتهي بالقتل.. عمل بعضهم على إغفال آيات التمييز بين الكفر والإيمان في مقابل تسليط الضوء على آيات أخرى تتحدّث عن اللاإكراه في الدين، وجرى التشديد عليها بما يوحي وكأنّها تعادل الدين بأكمله! لدرجة أنّك تجد في خطابات بعض الإسلاميّين كلاماً متكرّراً عن الطريقة المثلى لإيصال الدين إلى الناس، وهي طريقة اللا إكراه والتبليغ بالتي هي أحسن، بينما يكاد يغيب عن خطاباتهم مواضيع أخرى من صلب الدين ولا تقل أهميّة، وبصورة خاصة مفاهيم الكفر والإيمان وفق التصوّر الإسلامي !
في المحصّلة، أراد فريق أن ينسخ آيات اللاإكراه والدعوة بالتي هي أحسن لرغبته في إنزال العقوبات الأخروية بيديه! بينما وقع الطرف الآخر -من حيث لا يدري ربّما- في نسخٍ معاكس (إن صحّ التعبير) لقضايا الكفر والإيمان مسايرةً أو تأثّراً (بحسب تقديري) لتصوّرات غير قرآنية، بشكل مماثل لحرجه أمام سلوكيّات عمّمتها حضارة الغرب يطلق عليها النص وصف “الفواحش”!.. وبين النسخ التقليدي والنسخ (الحداثوي) المعاكس، يوشك القرآن أن يصبح مجرّد كلمات للترتيل في الصلوات الخمس ..
أخيراً، بعد تحييد دعوات النسخ والتخلّص من هيمنة المفاهيم الغربية، يبقى المنهج القرآني بتصوّري واضحاً في هذه المسألة لا لبس فيه:
فهو واضحٌ في الموقف من الكفر وفي ضرورة تبليغ هذا الموقف القرآني للمخالفين [قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ]..
وواضحٌ في التعامل السلميّ مع الكافرين: [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ].
وواضحٌ أيضاً في أن المؤمن ليس له من الأمر شيء، والحساب أخروي بالمطلق:
[وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا]
كاتب سوري