من الصحيح أن الموت واحد، ولكن أيهما أقسى، أن تطعن بخنجر أو تقتل برصاصة؟. يجيب الرأي العام و”الحس المشترك” بأن الموت بطعنة خنجر أقسى وأكثر فظاعة من الموت برصاصة. وعليه يمكن اعتبار القسوة من النوع الأول قسوة حسية مشخصة، بينما قسوة النوع الثاني هي قسوة مجردة.
القسوة الحسية هي شعورك باقتراف اليدين للمجزرة، شعورك بآلام الضحية و”متعتك” السادية بذبحه، واندماجك معه بطعم الدم، عودتك الثقيلة للبربرية والهمجية والبدائية. بينما تكون القسوة المجردة بانفصالك شبه المطلق عن الضحية، فتطلق الصاروخ وأنت تدخن سيجارة، أو ترتكب المجزرة بكبسة زر، تقتل دون أدنى شعور بتأنيب الضمير وتمارس حياتك كأن شيئاً لم يكن، تعطي أمراً بإبادة حي أو قرية وأنت تضحك، ثم ترتدي ياقتك وتخرج مع عائلتك وأطفالك لزيارة أطفال الآخرين اليتامى في الملاجئ، وتكرِّم بعدها أبناء الشهداء الذين قتلوا بأمرك دون أن تراهم.
يخطب أبو بكر البغدادي “خليفة المسلمين” الجديد بجدية واضحة ووجه متجهم، بينما يقوم جنوده “المُصطَفين”؛ الذين كانوا رفاقاً له في أيام القتال الأولى، بقطع الرؤوس وتعليقها فوق أسيجة الحدائق، وصلب “المفسدين” وتعليقهم في الساحات، ورجم النساء “المحصنات” بعد خروجهن عن الحصن المنيع للزواج الهش.
بينما يخطب الرئيس السوري بطريقة ثقافوية أكثر ليونة وأقل تجهّماً، دون أن تخلو “المحاضرة” من روح الدعابة والسخرية والضحك، في الوقت الذي تضرب قواته المأمورة بأمره؛ لكن المعتادة على “الأخطاء الفردية”، البراميل المتفجرة على المدنيين من “قليلي التربية”، وتقتل الأطفال “المخطوفين من الساحل” بالسلاح الكيماوي، ويغتصب سجانوه النساء المحصنات وغير المحصنات سراً وبلا مشهديّة، في الوقت الذي يتسلى عناصر الأمن في أوقات فراغهم بقتل المعتقلين في أقبية السجون، بعيداً عن أعين الناس وحواس المشاهدين في سوريا والعالم.
كان النظام قد زرع في السوريين هذا النوع من القسوة المجردة والانفصال الأخلاقي عن المشكلات التي تعتريهم أو تخص بلدهم، عبر تحويل مشاعرهم الخاصة إلى نوع من السياسة والحسابات السياسية، فقد انتشرت جداً، لاسيما في العام الأول للثورة، عبارات من نوع “بلاها درعا، أو بلاها حمص، أو لتتحول حمص لمزرعة بطاطا.. الخ”، فما يحدث في سوريا وفي غير مكان من العالم لم يكن ليعني جميع السوريين بوصفهم “شعب”، وذلك لا لأنهم غير معنيين إنسانياً وأخلاقياً “بالآخر” فحسب، بل لأن اندفاعهم شبه الغريزي في الفترة الطويلة للتدجين البعثي كان يتجه فورا للبحث عن تبريرات الظلم، بدل نقده وإدانته ومحاولة تغييره، وبالتالي الشعور بالمسؤولية الأخلاقية عن منع وقوعه.
ربما يتساءل السوري الغارق في ضياعه اليوم، لماذا نخاف مقاتلاً يحمل تصورات بدائية عن العالم، ويتصرف بطريقة بدائية وجنون قهري، فيلتقط صورة لنفسه وهو يحمل رأس بشري مقطوع أو يأكل قلب رجل يراه عدواً في المعركة، ويقل خوفنا عندما نرى مقاتلاً في جيش نظامي، أليس لأن هذا الأخير هو ابن مؤسسة منظمة وهرمية و”حضارية”؟. حسناً لنقل أن لاعقلانية داعش تتجلى في القتل المبني على أسس شرعية لم يعد أي من تلك الأسس شرعياً أو قانونياً قياساً بالحضارة والمحرز البشري، كقتل الناس بهمجية السيف والعمليات الانتحارية، وهو قتلٌ خارج قوانين الحرب المعاصرة ومؤسسة الجيش التابعة لكيان عقلاني هو الدولة، أليس المفروض بتلك الدولة أن تحكم بالقانون الموضوعي قياساً بأفرادها، وتحتكم للقانون الدولي قياساً بالعالم؟. ولكن ماذا عندما تصبح الدولة ككل هي كيان لاعقلاني ولا مؤسساتي وغير خاضع للقانون، لا بالمعنى الداخلي ولا الدولي، وعندما يصبح جيشها هو مؤسسة لقتل أفرادها بالبراميل المتفجرة، ومؤسسة “للتعفيش” وسرقة بيوت المدنيين المهجورة، وماذا عندما يكون العالم شريكاً لهذه الدولة وقابلاً لوجودها ومعترفاً بشرعيتها، وعندما يكون العالم شريكاً بالقهر واللامعقول الذي يصيبنا!.
لنقل بوضوح، خارج النسبية التي عممها نظام البعث، واللا أدريون في السياسة، ومثقفي السلطة واليسار المهزوم: إنه بغض النظر عن عدالة قضيتنا، وهي عادلة، فإن السوريون اليوم لم يعودوا ليأملوا من العالم الوقوف مع العدل، هذا أكبر من أحلامنا، بل الوقوف ضد الطغيان على ما هو عادل ليس إلا، الطغيان وقد بات إرهاباً لا معقولاً يهدد أبسط شروط العيش والحق في العيش، الطغيان باسم الحضارة وأدوات الحضارة على أبسط مكتسبات الحضارة ذاتها، أي الحق في الحياة والحرية، والحق في الصحة والتعليم وتربية الأطفال، الحق في تقرير المصير خارج البراميل والكيماوي والسكود وقطع الرؤوس ورجم النساء والموت تحت التعذيب.
غالباً ما نرى أن الخوف المحلي والرهبة العالمية من الصور الداعشية، ليست سوى الخوف من البدائية القابعة في كل منّا، الخوف من قلب الصورة المجردة لقسوتنا، مما يعرّينا ويعطينا مرآة عاكسة لحقيقتنا وزيف القشرة الحضارية التي نتلطى خلفها هرباً من تلك الحقيقة.
داعش هي مرآة تخاذلنا، وتخاذل العالم المعاصر أمام قيمه التي بنت حداثته ومعاصرته، وأمام الخط الأدنى للإنسانية الذي دنت تحته السلطة اللامعقولة في سوريا، وجعلت من لا معقوله واقعاً عادياً رغم تجاوزه لمؤلفات الرعب وخيالات العذاب والموت المكرر في جحيم القصص الديني والأسطوري.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.