صدر مؤخراً عن (بيت المواطن للنشر والتوزيع) من ضمن سلسلة (التربية المدنيّة)، كتاب بعنوان (الحريّة: من سماء الفلسفة إلى أرض السياسة)، للكاتب السوري (ماهر مسعود). وعلى اعتبار أن التناصت والتجابه والمتابعة من أفضل الوسائل للتعامل مع الكتب والإشكاليات المعرفيّة، للتقدم في العمليّة المعرفيّة؛ أقدِّم رأيي فيه وفي إشكالية الحريّة كإشكالية معرفيّة- وجوديّة في آنٍ.
إنه كتاب صغير نسبياً من حيث الحجم؛ فعدد صفحاته 95 صفحة من القطع المتوسط، ولكنه كبير من حيث المدلول والإشكالية ومستوى النقاش. ويصدق فيه المثل القائل: “خير الكلام ما قلّ ودلّ”. ويهدف لإثراء النقاش في إشكالية الحريّة وتوظيف الحريّة في النهضة والتقدم، وذلك من خلال نقاش نقدي يتوخّى تفكيك الخطاب السائد والفعل المرتبط به.
ينقسم الكتاب إلى محورين ومقدمة: الأول منهما “في مفهوم الحريّة وسمائها الفلسفي”؛ ويناقش فيه الكاتب “معنى الحريّة وتعيّنات المعنى” أولاً، و”الحريّة ومشكلة الوعي” ثانياً، ثم “الحريّة والفرديّة” ثالثاً. أمّا المحور الثاني فيتحدث عن “أرض الحريّة”؛ تلك الأرض المرتبطة بالسياسة من جهة، والدولة من جهة ثانية، والدين من جهة ثالثة.
يحاول الكاتب الالتصاق بالحالة المأسوية التي يمرُّ بها السوريون؛ ليفكِّر في الحريّة بحريّة، وليقول ما الحريّة؟ وما “الخوف من الحريّة”؟ فيعيد بأسئلته القديمة- الجديدة طرح البدهيات مجدداً، وتحليل مفاعيلها تحليلاً نفسياً، ومن ثم إلباسها إجابات وظيفيّة تناسب حاجات الواقع. فيربط بين سماء الفلسفة وأرض السياسة من جديد نقيضاً للفصل الدارج بينهما. وذلك بمناهج متعددة -كما هو مألوف في التفكير الحديث- فينتقل من المنهج الجدلي إلى المقارن إلى الوظيفي إلى التحليل النفسي بيسر وسهولة. والجديد الذي يقدّمه الكاتب يتمثل في التأكيد على “الحريّة من …” والانتقال إلى “الحريّة لـ …”. والتقاط سلبية “النسبيّة والخصوصيّة” في تأسيس الوعي العربيّ -ولاسيّما السّوريّ منه- بالحريّة. واستخدام “التحليل النفسي” لتسليط الضوء على اللاشعور الفردي والجمعي السّوري في قرفه وخجله وخوفه من الحريّة. والانتقال بالحرية من السؤال الأكاديمي إلى الضرورة الحياتية، إلى الآن، وهنا.
الحريّة من المفردات التي تمّ تداولها سورياً بشكل كبير نسبياً على مدار ما يزيد على أربع سنين. ورغم عدم وجود “ميتافيزيقا الحريّة” عربياً وسورياً إلا أنَّ الثورة السوريّة سٌميت بثورة الحريّة والكرامة. فنجد من السوريين من قدّس المفردة وافتخر بها، ومنهم من دنّسها واستهزأ بها وهزئ منها. أما الكاتب فيرصد هذه الوقائع بالتحليل النفسي ويقارن بين الحضارة الغربية وبين الحالة الراهنة عندنا ويخضع الأفكار لقراءة جدلية ويوظفها لصالح الخروج من حالة العبوديّة والخروج من حالة الخوف من الحريّة؛ ليتسامى بالحريّة إلى مستوى المفهوم الفلسفي ويقيم العلاقات ذهاباً وإياباً فيما بينها وبين واقعنا الراهن.
يتكئ الكاتب على عدد من الفلاسفة الذين تناولوا مشكلة الحريّة من أمثال هيغل ونيتشه وماركس وسارتر وكامو وماركوز، وعلى مفكرين عرب من أمثال عبدالله العروي وياسين الحاج صالح وبرهان غليون. ويقدِّم جديداً في خطاب الحريّة يتجاوز أنها “وعي الحرية” عند هيغل ليراها “حرية الوعي” أولاً. أو أنها الضرورة المفهومة جيداً ويخرجها من الإطار الديني بعد نقد هذا الإطار ليقدِّم رأيه بمعنى الحريّة ضمن المأساة السوريّة.
ينظر الكاتب للحريّة بوصفها “مفهوماً مثالياً مطلقاً” يتحدد بالواقع والنسبي؛ أي بفعل التحرر عبر التاريخ. ويؤكد على أنها مفهوم تاريخي يتعلق بالزمان والمكان وفاعلية البشر ونوع القيود والحتميات السائدة في حينه. وهي أيضاً مفهوم إنساني لا معنى له خارج الوجود الإنساني.
يميز الكاتب بين “التحرر من” وبين “التحرير لـ”؛ أي بين المفروض الخارجي على الفعل الإنساني كالاستبداد، وبين المفروض الداخلي الذي يفرضه الإنسان بإرادته على تلك الضرورات ويكون مضاداً لطبيعة هذه الضرورات الخارجية، كخلق قيم مضادة للاستبداد؛ وذلك لأنَّ الحريّة كمفهوم مطلق تَستبطن وتُدمِج الضرورات المختلفة التي تنقلها من مجال سلبي إلى آخر إيجابي. يقول الكاتب: إنَّه “الانتقال مما تفرضه تلك القيود والضرورات على الحياة والفعل الإنساني، إلى ما يفرضه هو بإرادته الحرّة على تلك الضرورات من فعل تحريري جديد ومضادّ لطبيعتها. وهنا تصبح الحريّة فعلاً مسؤولاً أكمل انفلاته من قيد الضرورة بإنتاج المعنى لذلك الانفلات وللضرورة عينها، وإنتاج قيمة للفعل التحرري تضبطه وتنضبط به بوصفها قيمة عليا تحررية” ص13.
الحريّة إذاً هي سيرورة فعل التحرر الناقص دائماً. يقول: “الحريّة بمعناها المجرد ليست قالباً جاهزاً يمكن تطبيقه خارج شروط الموضوعية وخارج الزمان والمكان، بل هي نوع من التراكم الكمي والنوعي لتجربة الحريّة والتحرر على المستويين الفردي والجماعي، ونمو لطاقات الأفراد العيانيين، وتنمية لقدراتهم وإرادتهم في مواجهة للمعيقات والصعوبات المتنوعة في الحياة. ولذلك أيضاً فإنَّ التحرر هو فعل ناقص دائماً ويسعى سعياً مستمراُ نحو الكمال دون أنْ يصل”ص18-19.
يرفض الكاتب التضاد بين معنى الحريّة وبين تعيناته ويعتبره تضاداً شكلياً. فعلى الرغم من أنَّ الأصل في الأشياء هو الإباحة، إلا أننا نجد العبودية كشرط ملازم للوجود الإنساني واقعياً، وتنمو الحريّة بكسر الحواجز في ذاته وعالمه الطبيعي والاجتماعي والسياسي. ويبيّن كيف استغل النظام السوري النقص الملازم للحرية عيانياً لإشاعة “النسبية والخصوصية” في الردّ على دعوة الحرية لنقضها، وكيف اعتبر هذا النظام أن السوريين ينقصهم الوعي ويدينون بالإسلام وعندهم أُميّة وبالتالي لا تلزمهم الحرية بل يلزمهم الاستبداد والتوريث.
يخلص الكاتب إلى أننا نفتقد الحريّة بمعنييها المفهومي والعياني ويقف النظام السياسي الاستبدادي سداً منيعاً أمام تطلعات الحريّة. ولهذا يُحيّي “الربيع العربي” الذي افتتح حياة عربيّة قابلة للحياة راجياً أنْ يخلق العرب حريتهم من جديد.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.