عاتبني أحد الأصدقاء، وشتمتني إحدى “الثائرات” ببوست لأني قمت بمشاركة شعر غزل لمحمود درويش ليلة محاولة النظام قلع عين حلب بمخرزه.. يومها كنت حزيناً جداً؛ فلقد تذكرت أول مظاهرة شاركت فيها أواخر 2011 في هذه المدينة الشجاعة، أول هتاف صرخته حلب يومها كان “بشار ولاك ما بدنا ياك”، حلب أحببت منها ثلاثة صبايا على مدى سبعة أعوام، كل أصدقائي منها، حلب أقرب لقلبي من مدينتي حمص، لكن الأخيرة علمتني ألا أزاود على حلب، إما أن أفعل شيئاً أو أن أحزن بصدق.
في قصف حلب وموتها لم يخرج السوريين من عباءة الشجب والندب والبكاء، ألغى -على ما يبدو- الفيسبوك كل نضالاتنا الحقيقية وأفعالنا وتحركاتنا التي كانت من الممكن أن تغير شيئاً ما في هذه المعادلة المميتة التي حيّدت فينا كل شيء ضروري للنجاح بدءاً من العقل وليس انتهاء بالشعور.
أيها الحلبيون يوجد مليون سوري في أوروبا، لكني أشهد لكم أني لم أر أكثر من خمسين شخصاً تجمعوا يوماً ما في وقفة أو مظاهرة منذ وصولي إلى باريس. لم يحاصر عشرون ألف سوري السفارة الروسية في برلين، ولم يعتصم ألف سوري أمام السفارة السورية في باريس أو في ستوكهولم أو في جنيف!، نسبة 99 في المائة من السوريين خارج سوريا والمخيمات -وأنا منها- تبحث عن خلاص شخصي، وتعالج تأنيب ضميرها ببوست على الفاسبوك يقول: “حلب ستنتصر”!
إذا لم نتكلم بصراحة عن مشكلة ما فلن نكون قادرين على حلها لأننا سنكون في مرحلة ما قبل تشخيصها. أيها الحلبيون إن كل وسائل الإعلام السورية ومؤسسات الثورة والائتلاف وكل المعارضات ولا أستثني أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة.. تضرب الماء بالماء، وهي لم تختلف عن أي مؤسسة تابعة للنظام بحجم المحسوبيات والفساد والظلم الذي يتعرض له السوريون فيها، لا بل هنالك انضباط و”تكنوقراط” أكبر في مؤسسات النظام لأسباب منها بطشه ومنها حب المؤيدين لبعضهم واجتماعهم على هدف هزيمتنا.
لا أقابل هنا في باريس وخارج باريس سورياً إلا والحديث يدور عن انتقاد سوري آخر، الكل “يطقطق براغي” للكل. السوريون المنتمون للثورة قتلوا السوريين المنتمين للثورة واغتابوهم وأحياناً كثيرة قطعوا أرزاقهم. الفرقة الاجتماعية انتشرت لدرجة لم يعد بإمكان العقل تصورها.
نعم ما تعرض له السوري يشرّع له فعل الكثير، وممارسة ما شاء من أجل الاستمرار بالحياة الذي يحاول هذا العالم القذر سلبها منه، كما يقول لي أستاذ احترمه، ولكن.. ليس على حساب السوري الآخر وهو ابن جلدتك وموقفك وثورتك!
يحكى أن رجلاً أعمى كان يجلس في الشارع ويضع أمامه لافتة كتب عليها: (أنا أعمى ساعدوني) وكان من بين كل مئة شخص يقرأ اللافتة يقف واحد ليضع بضع سنتات في الطاسة التي وضعها الرجل أمامه، إلى أن وقفت فتاة تناولت اللوحة وشطبت العبارة القديمة وكتب محلها عبارة جديدة ثم أكملت طريقها، وفجأة بدأ رنين الليرات وكمية المتبرعين ترعب الرجل الأعمى الذي لم يعرف ماذا حصل. في اليوم التالي جاءت الفتاة إلى الرجل وأخبرته أنها غيرت ما كتبه، فقال لها ماذا كتبت؟ فأجابت لم أغير ما كتبته أنت لكن صغته بكلمات جديدة ولقد كتبت: (يا له من يوم جميل لكني لا أرى شيئاً).
إذا لم نتغير، إذا بقينا كما نحن، إذا استمر هذا الأفيون المسمى ظلماً وعدواناً بــ “الفيسبوك” في كونه سبباً لطرح نضالاتنا والشعور بالارتياح بعدها.. إذا بقينا نظلم بعضنا، ونستفز هذا ببوست وذاك بلايك، ونحمل على فلان لأنه عبّر بحرية وخالف رأينا.. إذا صار نجاح السوري -حتى بتنظيم مظاهرة- عدواً لفشل سوري آخر بتنظيمها، فيقاطعها ومعه جماعته.. إذا بقي الكردي المنتمي لحزب الاتحاد الديمقراطي يريد أن يعلم العرب الديمقراطية، وحزبه مثّل واستعرض بجثث خمسين “حمصياً درويشاً” في شوارع عفرين.. إذا بقينا نصدّق أن أحمد طعمة وأحمد جربا وأحمد رمضان سينتصرون على علي حيدر وعلي أصلان وعلي دوبا لأن هؤلاء يحبون العلم الأخضر وأولئك يحبون العلم الأحمر.. إذا بقينا -بعد خمس سنوات من كل هذا الذي يحصل بنا- نحترم العريفي والغامدي ونتمنى أن يعلن الجولاني تبرؤه من القاعدة.. إذا بقينا نرمي الهمّ عن أكتافنا ونقول يا الله مالنا غيرك يا الله، أو الله يقصف عمرك يا بشار الأسد، ثم ننام مطمئنين أننا قمنا بواجبنا؛ فقد نهزم ولو رحل الأسد!
نبيل شوفان صحفي سوري عمل في العديد من التلفزيونات والإذاعات العربية والسورية وله مقالات رأي وتحقيقات استقصائية في العديد من الصحف