Site icon مجلة طلعنا عالحرية

في عولمة داعش، أو داعش المعولمة

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فقدت أميركا العدو اللدود، فاخترعته تحت مسمى الإرهاب. لكنها اخترعته في بيئة جاهزة لأن تتلقى الاختراع، وتتفاخر به، وهذا ليس لأن تلك البيئة إسلامية تحديداً، فحسب، بل لأنها بيئة مهزومة بأثر الاستبداد والحرب والظلم والقمع والايديولوجيا، وهي بيئة تُركت خراباً مهجوراً بعد أن فَرَغَتْ من استخدامها القوى الكبرى، وأدت مهمتها المطلوبة بين العدوين الكبيرين.

وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، 2001، أصبح الإرهاب الإسلامي، رسمياً، العدو المقابل لأمريكا في العالم، وتحول بعد ذلك التهديد الشيوعي إلى تهديد إسلامي، والخطر الأيديولوجي إلى فوبيا دينية، لكن ذلك الغول الوهمي/الحقيقي، أي الإسلام المتطرف، كان يحتاج إلى مزيد من القوة لكي يصبح عدواً أفضل وأكثر فائدة من جهة، ولكي يتجذر أكثر في المخيال الجمعي لأعدائه وأصحابه معاً، من جهة أخرى.

بعد ظهور داعش عام 2013، الذي كان نتيجة لتلاقح الطغيان الإبادي للأسد، مع الشعور الجمعي بالظلم والخذلان للسوريين، والسنّة تحديداً، ومع المخيال الإسلامي المريض للإسلاموية الجهادية، ومع التدخل الأمريكي بعدم التدخل ومنعه… اكتمل نصاب العدو، وأصبح دولة!.. صحيح أنه دولة سوريالية، تجمع الخلافة مع المخابرات، والهوليودية مع الذبح الحلال، وصحيح أنها دولة بلا حدود قومية، ولا اعتراف بالوطنية، لكنها مع ذلك دولة معولمة، عابرة للقارات، وموجودة في كل المجتمعات، تفجر في باريس وبلجيكا واستنابول، وتسقط طائرة في مصر، وتهدد في أمريكا وروسيا والصين، ولذلك بات لزاماً على كل الدول والمجتمعات إعلان الحرب عليها. إنها داعش، الغول الملحمي المابعد حداثي.

لكن داعش المعولمة ليست مقابِلة وموازية ومناسبة للتعدد القطبي الدولي والإقليمي، الجديد مثلها، فحسب، بل إن إدارتها للتوحش، وإسلوبها المشهدي الفاقع في القتل، مناسب أيضاً لنوع الأسلحة المحرمة دولياً التي تحتاج دول وأنظمة على شاكلة النظام الأسدي لاستخدامها، فكيف يمكن تغطية القتل المجرد بالأسلحة الكيمياوية والفسفورية والعنقودية إلا بقتل داعشي مشخّص، أكثر مشهدية، وإشعار بالألم الفردي، وأكثر محاكاة للغرائز.

لكن في عصر العولمة وخدماتها الاتصالية وفضائها المفتوح، لم يعد ممكناً إبقاء داعش جسماً غريباً في عالم أكثر “تحضُّراً”، بل إن إمكانية عزلها ككائن “مريخيٍّ” ليست ممكنة تبعاً لشروط العولمة وانفتاحها ذاته، أكثر من ذلك يمكن القول: إن داعش التي ولدت من ردِّ الفعل، أصبحت فاعلاً في العالم الذي ولَّدها، والمزاج الشعبي والسياسي في العالم بات أكثر اندماجاً في الداعشية المعولمة، بحيث لم يعد من الممكن الفصل اليوم، بين ظواهر الصعود السياسي لأمثال ترامب وبوتين واليمين الأوروبي، والمزاج الشعبي الانعزالي، الخائف والعدائي، الذي أفرز انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، كما أن العالم الذي بات أكثر قبولاً لبشار الأسد وخامنئي، يعلن، ولو بالإنكار، أنه أكثر قبولاً لداعش، وأكثر تماهياً بعنفها وأدواتها وانغلاقها وتوحُّشها.

نعيش في عالم واحد أكثر من أي وقت مضى، وما يحصل عندنا وفينا، لا يمكن عزله عن التأثر والتأثير في العالم، وإن كانت أدوات العزل جارية على قدم وساق ممن هم أقوى منّا، إلا أنه من الوهم الظنّ أن تلك الأدوات ستأتي أُكلها، فما يتم عزله من فوق يسري من تحت، وما يتم منعه في العلن يسري في الظل، وما يتم نكرانه ومحاربته في الشعور السياسي يتم تثبيته في اللاشعور المعرفي للناس، وما تتبناه الدول يخرقه الأفراد والشركات المتعدية الجنسيات… داعش هي فكرة، وهي عنف يمضي في اكتساب الشرعية والتعولم، ومن يحارب فكرة يصبح كمن يحارب طواحين الهواء إن لم يبدأ بتغيير الواقع الذي جعل من تلك الفكرة قابلة للحياة والتطور والنمو، وتغيير الواقع ليس معجزة ولا سحراً ولا طوبى، إنه خطوات بسيطة وقرارات شجاعة ونقلات تفصيلية، وإن كانت خطوات النزول نحو التدعشن المعولم قد ابتدأت بحماقة بشار وتلاقحت بجبن أوباما، فإن خطوات الصعود من ظلام التطرف المعولم لن تبدأ قبل التخلص من حماقة الجبناء.

Exit mobile version