عندما تُذكر كلمة “نقد” تتبادر إلى أذهان القراء أو السامعين مستويات مختلفة لهذا المفهوم، وذلك بحسب المستوى الثقافي للمستمع أو القارئ وخلفياته واهتماماته. فقد يتبادر إلى ذهن المثقف النقد الفكري بمختلف اتجاهاته وتنويعاته الفكرية والفلسفية، وقد يتبادر إلى ذهن الفنّان النقد الفني والأدبي، وإلى ذهن السياسي المنخرط في العمل الحزبي نقد البرامج السياسية للخصوم ومنطلقاتهم الأيديولوجية، وقد يتبادر إلى ذهن المرأة العاملة نقد جارتها لمظهرها الخارجي أو لباسها، أو النميمة التي يتناقلها الجيران بخصوص تقصيرها في واجباتها المنزلية، وقد يفكر المراهق بتعليقات أقرانه الجارحة وتهكماتهم، وقد يتبادر إلى ذهن الشيخ تقصيره في حضور عزاء فلان من الناس أو ما قد تتناقله الألسن حول موقفه المتردد من قضية عامة أو خاصة.
من النادر أن تستدعي الانتقادات الشفهية الغيابية بحق أشخاص أو مؤسسات أو حتى دول أي ردود أفعال مباشرة، إلا في ظل الأنظمة الشمولية التي قد تُزهق فيها روح أنسان ثمناً لكلمة، كالنظام السوري. لكن في الغالب تبقى النميمة الشفهية غائبة عن الجهة أو الشخص الذي هو موضوع النقد ومن وراء ظهره ولا تثير ردود أفعال مباشرة. ورغم الأحكام الأخلاقية الكثيرة التي تدين النميمة وتعتبرها عملاً ناقصاً ولا أخلاقياً، إلا أنها وجدت من يثمنها ويقدرها ويعترف بدورها العظيم في التاريخ البشري. يقول يوفال نوح هراري في كتابه “العاقل، تاريخ مختصر للنوع البشري”: “النميمة قدرة كثيراً ما تُعاب، لكنها ضرورية حقاً للتعاون في المجتمعات الكبيرة؛ فقد مكنت المهارات اللغوية الجديدة التي اكتسبها الإنسان العاقل قبل نحو سبعين قرناً من تبادل النمائم لساعات، وأدت المعلومات الوثيقة حول من يجب أن يؤتمن إلى إمكانية توسيع المجموعات الصغيرة إلى مجموعات كبيرة، وإلى تطوير أنواع من التعاون أعقد وأمتن”. ويضيف: “قد تبدو نظرية النميمة هذه مزحة، لكن عدداً كبيراً من الدراسات تؤيدها؛ فحتى اليوم تتكون الغالبية العظمى من التواصل البشري، سواءً كان على شكل رسائل إلكترونية أو اتصالات هاتفية أو أعمدة صحفية، من نمائم”. ويصل إعجاب الكاتب بالنميمة حدّ اعتبار أن اللغات الإنسانية تطورت من أجل هذا الغرض بالذات، موضحاً أن “النمائم تركز غالباً على الأفعال السيئة، وتجار الإشاعات هم أصل السلطة الرابعة، أي الصحفيين الذين يوصلون المعلومات إلى المجتمع وبالتالي يحفظونه من المحتالين والمستغلين”.
نقل التطور الثقافي والحضاري اللاحق للإنسان واختراع الكتابة، ثم المطبوعات ودور النشر، نقل النقد إلى مستوى جديد، ويمكن القول إن تاريخ الفكر البشري الحديث مرادف لتاريخ النقد، وربما يكون الفيلسوف الإغريقي سقراط هو أول من دشن مصطلح التفكير النقدي رسمياً قبل 2500 عام، إذ ترجع أولى المحاولات الموثقة للتفكير النقديّ إلى تعاليم سقراط التي سجلها أفلاطون.
وقد شدد سقراط على أن “الحقيقة لا يمكن بلوغها بالاعتماد على هؤلاء الموجودين في “السلطة”، وأسس لأهميّة “طرح الأسئلة العميقة والتي تنفذ إلى التفكير قبل القبول بأي فكرة”.
لا يبغي هذا المقال القصير التطرق لتعاريف النقد المختلفة والمدارس النقدية الكبرى، إنما يمكن القول باختصار اعتماداً على ويكيبيديا إن التعريفات بالعموم تتفق في أنه “مهارة الانغماس في فعل ما بتفكير شكوكيّ غير متحيّز. إنه عملية موجهة ومنظّمة ومتابَعة ذاتيًا وتصحح نفسها بنفسها. وهو العملية النشطة المتقنة لوضع المفاهيم، لتحليل وتركيب وتطبيق وتقييم المعلومات، من أجل الوصول إلى إجابة أو استنتاج، وهو بالضرورة يتضمن التواصل الفعّال والقدرة على حلّ المشكلات، والالتزام بالتغلب على الأنانيّة الفطريّة والأعراف المجتمعيّة”.
ويفترض في التفكير النقدي الذي هو أرقى أنواع التفكير، أن يكون متعالياً وأن يبتعد عن الشخصنة والتجريح والإهانة، كما يفترض به التحرر من قيود الأيديولوجيا والأحكام المسبقة والاصطفافات بكافة أشكالها.
النقد هو روح المعرفة وروح العقل، ولا يشتغل العقل من دون النقد كما يذكّر الراحل جورج طرابيشي. لقد كان النقد عبر التاريخ مهمة أفراد قلائل، ولم يندر أن يذهبوا ضحية أفكارهم الجديدة من قبل السلطات الحاكمة، لكن تراكم النقد كان سبباً في التحولات الكبرى والثورات الكبرى، تلك التحولات التي لا تلبث أن تستولد نقيضها ونفيها ضمن سيرورة النفي ونفي النفي المستمرة التي وصفتها جدلية هيجل.
في المجتمعات الديموقراطية الحديثة أصبح النقد أكثر سهولة وأقل تكلفة، وصار التنوع والاختلاف فضيلة الفضائل، وصارت حرية التعبير من أقدس الحريات التي يعمل المجتمع والدولة على صونها وتنميتها. أما في مجتمعاتنا التي دخلت مرغمة عصر العولمة والقرية الكونية الواحدة، فتبدو الإشكالية أكثر تعقيداً. إذ لا يبدو أن هناك جهات أو أفراد أو مؤسسات تقبل النقد أو تتعامل معه إلا استنكاراً ومزيداُ من التمترس والتعنت، ويبدو أن ثقافة كره النقد تتعمق أكثر فأكثر، ومن جهة أخرى انحدر النقد في ظل هذا الفيض الحرياتي المزيف على وسائل التواصل الاجتماعي إلى محض سباب وشتائم وقلة أدب غالبة.
وإذا نظرنا إلى المشهد الثقافي السوري على سبيل المثال فإننا سنرى اليوم جزراً منعزلة ومغلقة لا تتفاعل فيما بينها إلا بما يشبه المعارك والغزوات الموسمية، والتي لا تزيد التفكير إلا انغلاقاً والحوار إلا انسداداً، ولا تفيض إلا بالحقد والكراهية والتنافس السقيم.
وحتى على صفحات الكتّاب والمثقفين الأكثر تنوراً من الصعب أن نرى اليوم إلا لوناً واحداً وصفاً واحداً من المصفقين.
لقد بدأت هذه السيرورة منذ عشر سنوات، عمر الثورة السورية، وعمر الربيع العربي الذي تزامن مع ثورة السوشيال ميديا، عندما برزت الأنوات المغمورة وانتفخت شيئاً فشيئاً لتعيد إنتاج صورة السلطة التي ثارت ضدها في رفضها للاختلاف والنقد ورفضها للآخر.
شيئاً فشيئاً بدأنا نرى مشاريع مستبدين صغار جدد تتشكل أمام أعيننا على الشاشات، مستبدون يحبون العسكر، ويبررون التطرف، وينظّرون للتدخلات الخارجية. والمفكر الحر صار يمارس التقريع والطرد، صار تقريع الخصوم وتغنيج التابعين والتابعات منهجاً متبعاً، وهذا الغزل بالأتباع المخلصين لا يعبر في الغالب عن حب أو احترام بمقدار ما ينطوي على ما يشبه الرشوة المعنوية بغية تأبيد التعلق والتبعية، فالنجم في هذا الجو المشحون يحتاج دائماً إلى التصفيق لا لإرضاء غروره ونرجسيته فقط، إنما لتحصين نفسه وحمايتها من هجمات محتملة.
وهكذا عدنا إلى ما قبل نقطة البداية؛ التمترس، إلغاء التفكير والنقد والتفاعل والتحاور، تذويب الفرد في الجماعة، إلغاء فرادة الإنسان وحريته واستقلاله، “مجتمعات” منفصلة تساهم في هدم المجتمع الواحد، فردوية أنانية بدون أفراد مختلفين، واستذكر هنا كلمات راهنة للراحل إلياس مرقص: “ديمقراطية بلا ديمقراطيين، تغيير بلا تغاير، تاريخ بلا تفاوت، لا يعزّز إلا التطرف الأيديولوجي والاحتقان الاجتماعي والاستبداد السياسي”.
كاتب سوري من الجولان المحتل