ثمة استعصاء كبير في مسار الثورة السورية، بيد ان هذا الاستعصاء لا ينبع من التفوق العسكري للنظام، أو من قدرته على السيطرة، ولا من استناده إلى شبكة سلطوية واجتماعية متماسكة، أو إلى تحالف إقليمي ودولي، فقط، فإلى جانب كل ذلك، فإن هذا الاستعصاء يستمد وجوده من مصادر اخرى متنوعة ومختلفة. هكذا، إلى العوامل الخارجية المتمثلة في الخذلان الدولي لثورة السوريين، والمداخلات غير المناسبة، أو المضرة، للأطراف الدولية والإقليمية والعربية، التي تلاعبت بهذه الثورة، ثمة فوق ذلك، أيضاً، المشكلات الذاتية التي أعاقت تطورها، وحدّت من قدرتها على جذب مزيد من القطاعات الشعبية إليها، وسهّلت صعود الجماعات العسكرية المتطرفة التي تتغطى بالإسلام، وبالطائفية، مثل جماعات داعش والنصرة واخواتهما.
يأتي في مقدمة هذه المشكلات عدم قدرة هذه الثورة على الانتظام، بدليل ضعف كياناتها السياسية او العسكرية او المدنية، وعدم استطاعتها فرض ذاتها في المجال المجتمعي رغم كل السنوات التي مرت، والتضحيات التي بذلت. حتى في مواجهة النظام فإن هذه الكيانات لم تستطع تقديم نفسها كبديل له، لا في إدارة احوالها، في هيكلية سياسية وعسكرية ومدنية وإغاثية، ولا في قدرتها على إدارة المناطق المحررة، علما أننا نتحدث عن مدى زمني قدره أربعة أعوام.
هكذا فإن العفوية والتجريبية التي كانت اتسمت بها ثورة السوريين، في بداية انطلاقها، والتي كانت بمثابة نتاج طبيعي لواقع حرمان المجتمع السوري من السياسة، وافتقاده للتجربة السياسية، وللتشكيلات الحزبية باتت، فيما بعد، بمثابة عامل اضعاف وتأخير وفوضى واستنزاف للثورة. فمن غير المفهوم ولا المقبول استمرار ضعف المبنى التنظيمي للثورة، في إطاراتها السياسية والعسكرية والمدنية، لاسيما مع تعثر “الائتلاف الوطني”، وكل التشكيلات المنضوية في إطاره، أو المتفرعة عنه (حكومة مؤقتة، مجلس عسكري، لجنة الإغاثة، المجالس المحلية).
في جانب أخر فإن مشكلة الثورة السورية تكمن، أيضاً، في التحول نحو العسكرة دون أن تسبق ذلك أية محاولة لترتيب مرجعية أو إطارات سياسية وتنـظيـمية لها، ودون التبصر في كيفية إدارة الصراع في الميدان العسكري، مع ملاحظة التفوق العسكري للنظام، واستناده إلى قـوى عسكرية إقليمية ودولية، في ظل افتقار الـثورة للإمكانيات العسكرية المناسبة. ولعل مشكلة الثورة السورية في هذا المجال بالذات تكمن في التحول الى الصراع العسكري من دون ان تنضج الأحوال الذاتية لهذه النقلة الكبيرة والخطيرة في التجربة السياسية للسوريين، سيما ان هذه اول تجربة سياسية لهم.
ثمة هنا أسئلة تطرح نفـسها، مع التـسـليم جدلا بمـشروعيـة التحول نحو العسكرة، بسبب من انتهاج النظام للعنف كإطار وحيد لعلاقته مع المجتمع، وكطريق وحيد للتعامل مع الحراكات الشعبية، لاسيما مع مبادرته الى اقحام الجيش في الصراع الدائر، وتحويله الى مجرد اداة لحماية النظام.
هكذا ومع تمييزنا لظاهرة العسكرة الناجمة عن الانشقاق من الجيش، ومعها نشوء ظاهرة الدفاع المحلي عن المتظاهرين، في بعض احياء المدن والقرى، وبين ظاهرة العسكرة الناجمة عن المداخلات الخارجية، والمرتهنة لها، فلا بد من طرح مجموع من الأسئلة. فمثلا: هل كان من الضروري او الحتمي أن تـسير الأمور على النحو الذي سارت عليه عسكريا؟ وبمعنى أكثر تحديدا، هل كانت السيطرة على أجزاء من بعض المدن عملا ضروريا لإضعاف النظام، ألم يكن ثمة خيارات عسكرية أخرى ربما أنسب وأجدى؟ ثم هل خدمت هذه الاستراتيجية الثورة ومجتمعها أم أضرت في حين أنها أفادت النظام وسهلت له؟ أيضا، هل زجّت السيطرة على هذه المناطق كتلاً شعبية أكبر في الصراع ضد النظام أم أخرجتها من هذه الدائرة؟ وأخيرا، هل ساهم ذلك في تشتيت القوى العسكرية للنظام أم سهّل تحشيدها وتحسين إدارتها، لاسيما مع فرض الحصار على كثير من المناطق “المحررة” في حمص وحلب ودمشق؟
المشكلة الثالثة تتعلق بخطابات هذه الثورة التي انطلقت، أصلاً، لإسقاط نظام الاستبداد والفساد، ومن أجل الحرية والكرامة والمساواة والمواطنة والديمقراطية، والتي باتت اليوم وكأنها تعرض خطابات أخرى تتعارض بل وتتناقض مع الخطابات الأصلية. ومع التأكيد بأن هذه “الانحرافات” هي نتاج انتهاج النظام سياسة الأرض المحروقة، ونتاج تعمده تدمير البيئات الشعبية التي يعتبرها معادية له، ما تسبب في إزاحة المجتمع السوري من المشهد، فإنها أيضا بمثابة انعكاس لحال الانفلات في الثورة، ولواقع تصدر الجماعات المتطرفة، التي استبدلت الخطابات السياسية بالخطابات الدينية، الأمر الذي أضر بصدقية ثورة السوريين وشوش على مقاصدها، وأضعف قدرتها على خلخلة القطاعات المجتمعية المرتبطة بالنظام، أو القلقة على مستقبلها.
هكذا، يبدو الوضع السوري اليوم في حال استعصاء، فالنظام لم يعد يستطيع الاستمرار، والثورة لم تثبت ذاتها بعد كبديل شرعي ومناسب، في حين أن القوى المتطرفة غير مقبولة لا سوريا ولا إقليميا ولا دوليا، أما الفاعلون الدوليون فما زالوا في موقع المتفرج على الكارثة السورية، علماً أن أزمة النظام تتعلق بكيفية نهايته أو رحيله، في حين أن أزمة الثورة تتعلق بكيفية إثبات ذاتها إزاء السوريين وإزاء العالم.