لا يوجد تشابه بين قضيتي الفلسطينيين والسوريين؛ فالأولى هي نتاج مشروع استعماري استيطاني عنصري، إجلائي وإحلالي، وقد تأسّس على جلب المستوطنين اليهود من الخارج، بالاعتماد على دعم بعض القوى الغربية، في حين أن قضية السوريين هي نتاج نظام تسلّطي، تأسس على الاستبداد والفساد، ومصادرة الحريات وحقوق المواطنة، منذ قرابة نصف قرن.
لكن هذا التفارق، من حيث الموضوع والأهداف، لم يمنع أن هاتين القضيتين العادلتين، أضحتا أكثر قضيتين متشابهتين من حيث المسارات والتحولات والمداخلات، إلى درجة تثير الدهشة والتخوّف في آن معاً.
هكذا، مثلاً، باتت القضية السورية مستعصية على الحل، مثل القضية الفلسطينية، مع أنها واضحة جداً، مع حوالي نصف مليون ضحية، وملايين اللاجئين والمشردين، وخراب مدن بكاملها، إلى درجة أنها أضحت من حيث كونها مأساة أكبر بكثير من مأساة الفلسطينيين، رغم أن هذه بات لها قرابة سبعة عقود، في حين قضية السوريين عمرها بضع سنوات، مع ذلك فقد دخلت هذه القضية في متاهة تفاوضية، تشبه تماماً المتاهة، التفاوضية التي أدخل فيها الفلسطينيون.
ومع وضوحها الشديد، فإن هذه القضية بات يجري حرفها عن طبيعتها، بحيث باتت تطرح باعتبارها قضية إنسانية، أي كقضية لاجئين، ومناطق محاصرة، ومساعدات غذائية وطبية، أو تطرح بوصفها بمثابة معركة ضد الإرهاب، أو بما يختزل الوضع بكونه يتعلق بحماية بعض الأقليات الإثنية أو الدينية، لا بوصف هذه المسائل كلها، على أهميتها، كأعراض للمرض الأساسي، الناجم عن نظام الاستبداد. ومعلوم أن هذا تماماً ما حصل مع الفلسطينيين، الذين ظلت إسرائيل تشتغل على وسم كفاحهم المشروع ضدها بالإرهاب، واعتبار ذاتها، بمثابة الضحية! ناهيك عن ترويجها لعدم أهلية الفلسطينيين لحكم أنفسهم، واعتبار أن كل مشكلتهم تتعلق بميلهم للعنف، وعدم إدراك مصالحهم، وضعف قدرتهم على إدارة أحوالهم، وحاجتهم للمساعدات للتمكن من العيش.
مع هذا وذاك، ثمة بعد أخر، يتعلق بالوضع الدولي وهو يتمثل بإخراج القضية السورية من أيدي السوريين، وهذا يخدم طمس طبيعتها، أو تغطية حقيقتها، إذ أضحت بمثابة قضية إقليمية ودولية، إلى درجة أن التقرير في حلّها، وفي شأن شكل سورية المستقبل، بات في أيدي الفاعلين الدوليين، وهذا ما حصل مع الفلسطينيين، ولا زال.
وكما نلاحظ فإن المفاوضات باتت بمثابة لعبة لتضييع الوقت، أو بمثابة تمرين على الحوار بين الأطراف السوريين، في حين أن حسم المسائل الرئيسية يجري بين الطرفين الكبيرين، أي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي، بين رئيسي البلدين، ووزيري خارجيتهما، وحتى الأطراف الإقليمية، أو الأطراف العربية الفاعلة بات دورها هامشياً في صوغ مستقبل سوريا، وشكل النظام السياسي السوري القادم، وذات الأمر حصل مع قضية الفلسطينيين.
على الصعيد الداخلي ثمة تشابه كبير، وفي عديد المجالات، أيضاً. مثلاً لا توجد اجماعات سياسية عند السوريين، بعد خمسة أعوام من الثورة، وثمة افتراقات كثيرة فيما بينهم. ولعل فكرة الحزب الأكبر لدى الأكراد عن “الفدرالية”، وإدارته لمناطق الحكم الذاتي، وكذلك ظهور الجماعات العسكرية المنتمية إلى الإسلام السياسي، هي جزء من اللوحة، إذا اخذنا بالاعتبار باقي الأطياف السورية، غير المحسوبة أو غير المتعاطفة لا مع النظام ولا مع الثورة (في حالها الراهن).
بيد أن الأهم، على الصعيد الداخلي، أن الكيانات السورية المعارضة، السياسية والعسكرية والمدنية، باتت تعتمد في استمرارها على الدعم الخارجي، المالي والتسليحي والسياسي، أكثر بكثير من اعتمادها على ذاتها، أو على شعبها، بل إن شعبها بات يعتمد بدوره على المعونات الخارجية، وهذه هي حال الفلسطينيين، منذ عقود، ولاسيما منذ ما بعد أوسلو وقيام السلطة (1993).
بالنتيجة فقد حصل مع السوريين ما حصل مع الفلسطينيين قبلهم، بحيث باتت ثورتهم مرتهنة للقوى الخارجية الداعمة، وهذا الارتهان باتت تظهر أعراضه المرضية، في شكل الخطابات السائدة، وفي أشكال العمل، والعلاقات البينية، والعلاقة مع المجتمع، وبشكل خاص في الإملاءات أو التجاذبات السياسية التي تطرح من هذا الطرف أو ذاك. ولعل مسارات صعود وانحسار العمل العسكري، في الشمال والجنوب السوريين يوضحان ذلك، كما توضحه مسارات التفاوض، والخطابات المتماوجة التي تحاول التكيف مع ما يحصل، وبالأساس التكيف مع الإرادات الدولية والإقليمية.
ثمة جانب سلبي مهم، أيضاً، يجمع التجربتين السورية والفلسطينية، ويتمثل بحصر الصراع في بعده العسكري، أي بالوسائل المسلّحة، على حساب أشكال الكفاح الشعبية الأخرى، وبالاعتماد على الجماعات العسكرية. ومفهوم أن هذا أصبح تحصيل حاصل بعد حال التشرد واللجوء السوريين، ومع القصف بالبراميل المتفجرة على المناطق المتعاطفة مع الثورة، لكن هذا لا يمنع من قول الحقيقة بأن هذا الأمر أضر بثورة السوريين وبطبيعتها وبمساراتها.
شيء مأساوي أن تتشابه مصائر شعوب هذه المنطقة ومآلات ثوراتها، وليس لنا إلا أن نبقى مع بقية من أمل لخلاص السوريين والفلسطينيين.