التغيير في النفس البشرية عملية معقدة للغاية، ولينظر كلّ منّا إلى مدى الصعوبة الكامنة في تغيير عادة من العادات المهيمنة على حياتنا، وهي كثيرة، بعضها اخترناها بمحض الإرادة، في حين أنّ أكثرها لا نعرف كيف ومتى بدأنا اكتسابها والاعتياد عليها.. لنتأمل لبرهة في مدى المعاناة التي نشعر بها عند مواجهة فكرة من الأفكار التي توارثناها حيال أبسط الأمور في الحياة وليس أعقدها.. فإن كان التغيير على مستوى النفس صعباً إلى هذا الحد، فالتغيير على مستوى المجتمع إذاً مسألة لا تقارن من حيث صعوبتها، وبذلك يمكن أن نفهم حجم خيبات الأمل التي يعاني منها اليوم، كما في كل عصر، الداعون إلى إصلاح المجتمعات من خلال عملية تغيير سلمية أو بثورة جذرية على أنظمة وهياكل الفساد..
خيبات الأمل المصاحبة لأحلام التغيير ليست وليدة اليوم أو الأمس، بل لازمت الإنسان منذ بداية تأسيس أولى المجتمعات الإنسانية. التاريخ ينقل لنا الكثير من الإخفاقات التي عانت منها حركات الإصلاح. والنصوص الدينية قامت بدورها بتسجيل بعض هذه الإخفاقات وأعطتها قدراً كبيراً من الاهتمام، وفي ذلك دلالة على أنّ الكلام عن إخفاق حركات التغيير يحظى بمكانة نصوصية لا تقل عن المكانة التي يحظى بها نجاح بعض الحركات الأخرى، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على أنّ النجاح لا يمكن الوصول إليه ما لم تمرّ الحركات الإصلاحية، والثورية بطبيعة الحال، على أسباب الإخفاق، الوارد دوماً.
ولعلّ قصة بني إسرائيل من بين القصص التي شغلت حيّزاً كبيراً لم تشغله أي قصة أخرى في القرآن. وهي تحكي كما هو معلوم عن شعب عانى الكثير من الاضطهاد والجور، وسعى إلى الخلاص والتحرر، ولكن سلاسة الكلمة “التحرر” تعكرها، دوماً، وعورة الطريق الموصل إليها.. فبعد كل البراهين والبيّنات القاطعة التي قدمها موسى أمام قومه في مسيرة تحريرهم من خوفهم ومن سيطرة فرعون، وبعد أن كان بنو إسرائيل قد قطعوا الجزء الأكبر، والأصعب، من مسيرة الحريّة بدأ الحنين للعبودية يراود الشريحة الأكبر منهم، إلى أن طغى هذا الحنين، في غياب النبي موسى وعجز أخيه هارون، على نزعة التحرر ورجع بالواقع الجديد القهقرى..
فعلياً، لم يكن بنو إسرائيل على استعداد كامل للحرية.. لقد عانى هذا الشعب من آلام الاضطهاد في أبشع صورة له، لكنّ الألم قد لا يكون وحده كفيلاً بإنضاج الفهم السليم للحرية. الألم ينضج القابلية للثورة فحسب، ويجعل من صاحبه قادراً على الصراخ ومن ثمّ الانفجار في وجه مضطهديه، لكن ليس ثمّة ضمانة على أنّ الانفجار يكفي وحده للعبور نحو حالة أفضل..
يتعجل دعاة التغيير الأحداث في معظم الأحيان، هذا ما حدث مع بعض الأنبياء أيضاً، فقدرة بعض الأشخاص على الخلاص الفردي من وطأة العادة والفكرة السلبية قد يوقعهم في تضليل أنفسهم بالاعتقاد بأنّ الخلاص الجماعي يملك نفس الدرجة من السهولة، أو الصعوبة.. وهذا اعتقاد أبعد ما يكون عن الواقع، الذي هو عادة أعقد من ذلك بكثير.. فثمّة تعقيدات مركبة تحكم عملية التغيير في الجماعة، ولا يحيط بها التصور الفردي البسيط. هذه التعقيدات تحكمها قوانين مختلفة عن تلك التي تحكم التغيير الفردي، وهي قوانين لا تحابي ولا ترحم أحداً على الإطلاق، حتى ولو كان هذا الأحد بمنزلة نبي من أولي العزم من الرسل.. وفي حالة بني إسرائيل، التي هي حالة من البؤس المتراكم الذي كان يحتاج إلى نهضات متعاقبة لإحداث التغيير، لم يكن قرار النبي صائباً حين خطا خطوات أوسع تاركاً المجتمع بعيداً خلفه.. ظاناً بأنّ النكسة الفكرية مستبعدة بعد أن عبر بهم البحر..
قيل له: “ وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ”؛ كيف تركتهم وراءك ولم تكن معهم خطوة بخطوة في لحظات مصيرية كهذه؟!
قال: “ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ”.. ولم يكن ثمّة شكّ في نوايا موسى، ولكنّ حسن النوايا لا يغير من حتمية ما هو كائن.. ألقى موسى الألواح المقدسة، وأخذ برأس أخيه يعنّفه على تراخيه مع الذين عادوا إلى ابتكار شكل جديد من أشكال العبودية. وينبغي الإشارة إلى أنّ بني إسرائيل لم يتعرضوا في ذلك التوقيت إلى أيّ مؤثرات أو تدخلات خارجية، فلا حروب ولا وصاية من أحد عليهم، بمعنى كانت مشكلتهم مع أنفسهم وحسب، ومع ذلك فشلوا في مواجهتهم الأولى مع ذواتهم بعد نجاتهم من فرعون.. وهم، بطبيعة الحال، لم يحققوا نجاحاً في الخلاص من استعباد فرعون لهم بدون تدخل إلهي في تفاصيل خارقة للعادة.. ويمكن اليوم فهم سبب حدوث تلك الخوارق، والتدخل الإلهي لإنقاذ شعب ما وتحريره من جلاده: وكأنّ القرآن يريد منا أن نؤمن بأنّ التحرير إن لم يكن مبنياً على مقومات داخلية فإنّه لن يفلح في تحقيق غايته النهائية.. لن يفلح، وإن زوّد الرسل بكل الأدوات الخارقة للعادة..
أماطت التداعيات الأخيرة لثورات المنطقة اللثام عن حقائق لم يأخذها دعاة التغيير في الحسبان، فلقد كشفت التصدعات التي تعرضت لها مجتمعات المنطقة، سيّما في سوريا، عن ضعف في مفاهيم التحرر عند شرائح واسعة من الناس.. لقد غرقت بعض الجماعات في مستنقع العصبيات القومية والطائفية التي تعود إلى مرحلة ما قبل المواطنة والدولة الحديثة، واستبدل كثير من الناس رموز الفساد السابقين برموز جديدة، وحل مستبدون جدد في حين أنّ المستبد الأول لم يرحل بعد.. وعدنا إلى السؤال الذي كان مطروحاً منذ البداية: هل نريد فعلاً التحرر من الاستبداد، أم أن العملية هي مجرّد تغيير أسماء؟!
كاتب سوري