الزميل والكاتب علي فاروق الذي خرج مؤخراً من المعتقل، يكتب لمجلة طلعنا عالحرية عن “ثلاث حيواتٍ منفصلة” للمعتقل في سوريا. أهلا به مجددا وبالنصر والحرية.. وحياة رابعة كريمة لكل المعتقلين.
في الأسبوع الأول من الاعتقال، وبعد أربع أو خمس جلساتٍ، انتهى التحقيق، كان التحقيق يجري ليلاً؛ يأتي السجان فيركل الباب الحديدي بقوةٍ، متعمداً إرهاب الموجودين، ثم ينادي بصوتٍ ساخرٍ على “الشاويش”، وهو يشتم بكلماتٍ نابيةٍ، ويقول: “فلان الفلاني.. ع البحر..”، وذلك معناه أن المعتقل المنادى عليه مطلوبٌ للتحقيق، وعلى “الشاويش” أن يجرده سريعاً من ثيابه، وأن يَعصِب عينيه بقطعة قماش داكنة، وأن يكبل يديه خلف ظهره، وأن يقوده إلى الباب، ليصطحبه السجان إلى التحقيق.
الطريق من المهجع إلى غرفة التحقيق.. خطاطيف وكلابات تنهش من كل جانبٍ، من الأمام والخلف، والأعلى والأسفل، لم أكمل يوماً ذلك الطريق، إذ دائماً ما كان السجانون يعيدوني إلى المهجع، ويطلبون من “الشاويش” غسل الدماء عن وجهي وجسدي، ثم يعيدون اصطحابي، لأجثو على ركبتيّ أمام المحقق، عارياً، مكبلاً، مغمض العينين، تحت سماءٍ مثلجةٍ، قارصةٍ، لثلاث أو أربع ساعاتٍ متواصلةٍ.
من الصعب جداً وصف حال المعتقل حين يسمع السجان ينادي اسمه، ومع هذا فلا مانع من المحاولة، حيث يشعر المعتقل في تلك اللحظة أن دمه تجمد في عروقه، وأن دماغه توقف، وحواسه تعطلت، تنقبض أحشاؤه، وترتفع إلى الأعلى، كأنها تسعى للخروج من فمه، تنحل ركبتاه، وتُشل أعضاؤه، تنفجر في صدره كتلة من الهلع، كتلة رعبٍ ناريةٍ مؤلمةٍ، تحرق داخله، تخطف أنفاسه، وتمزق قلبه، في تلك اللحظة ينفصل المعتقل تماماً، ويصبح ذاهلاً، شيءٌ يشبه موقف يوم القيامة، ربما..
بتُّ أدرك بعد تجربة الاعتقال، أنه يمكن أن تكون للإنسان في الدنيا، ثلاث حيواتٍ منفصلةٍ، وهي مختلفة عن بعضها بالمطلق، فلا يربطها ببعضها إلا الجسد، الذي يبقى للإنسان ذاته، أما روحه، وعقله، ونفسه، فمختلفة كلياً في كل واحدةٍ منها.
حياته الأولى قبل الاعتقال حيث تكون له أفكاره، وتاريخه، وأحلامه، ومشاعره، وأحاسيسه، وهذه تنتهي كلها لحظة وصوله إلى فرع الأمن، هناك حين يجرد من ثيابه، ويقف عارياً كيوم ولادته، وفيما تنهال عليه السياط، والشتائم، يموت الإنسان الذي كانه، لتبدأ في هذه اللحظة حياته الثانية، في هذه الحياة الثانية يجوز عدم اعتباره إنساناً بالمعنى الحقيقي، ولا حتى حيواناً، فالحيوان يلقى معاملةً ورعايةً أفضل، في هذا الطور يمكن اعتباره كائناً حياً فقط، كائناً يشبه الكائنات المجهرية، لا يشعر بوجوده أحدٌ، ولا يهتم لوجوده أحدُ، هو نفسه لا يشعر بوجوده أحياناً، وهو يتمنى لو أنه لم يوجد يوماً، ولم يُخلق قبلاً. في هذه الحياة الثانية يكون كائناً بلا عقل، ولا روح، ولا مشاعر، كائنٌ مجردٌ ينتظر الموت، ويشتهيه في كل لحظةٍ، كائنٌ ينتظر وفقط، وهو يعتمد على غرائزه من أجل البقاء، وهذا ما يجعله ‘‘يستوحش’’ أحياناً، فلا يهتم لأي قيم، ولا ينضبط بأي معيارٍ، لذلك يمكن أن تراه يَعتدي على كائنات أخرى، تشاركه محيطه الضيق، حين تمر بلحظة ضعف، أو حالة انكشاف، فيسلبها طعامها، وشرابها، أو يغتصب مكان جلوسها، ونومها، أو يقتلها فيما لو أُمر بذلك، أو استدعى بقاءه ذلك.
يخرج الكثير من الأشخاص برواياتٍ صادمةٍ عما مروا به في الحياة الثانية، وعما خبروه فيها من حياةٍ لا تشبه الحياة، حياةٍ همجيةٍ، متوحشةٍ، تجبر خائضها على التحول إلى كائنٍ شرسٍ، رغم أن مكانته، وموقعه النسبيين لا يتعديان مكانة وموقع خليةٍ مجهريةٍ، عاجزةٍ، وغالباً ما تكون أكثر تلك الخلايا توحشاً، وافتراساً هم أولئك المدعوون بـ”الشاويش”، وهم معتقلون قدامى، أفقدتهم إقامتهم الطويلة في السجن أخر ما بقي من مشاعر إنسانية، وطمعوا في الحصول على حصة أكبر من الطعام، ومقدار أقل من التعذيب، من خلال السلطات التي يخولها السجانون لهم، في توزيعٍ الطعام والشراب، وتنظيم أماكن النوم، والوقوف، و‘‘ترقيم’’ المعتقلين ‘‘المشاغبين’’، ونقل المعلومات إلى السجانين، فالسجانون ممنوعون من دخول المهاجع لأسباب أمنية، وصحية، لذلك يستعينون بـ”الشاويش” ليكون عينهم، وأذنهم، وسوطهم داخل المهجع.
خلال عبوري الحياة الثانية تلك، عاينت العديد من تلك الحالات، وسمعت عن الكثير منها أيضاً، أخبرني صديقي “أنس” الذي التقيته في سجن “عدرا” المركزي، أنه قتل مساعد “الشاويش” في فرع فلسطين، خنقه بكيس الخبز، بعد ذهابه للنوم ليلاً، لأنه منعه من دخول الحمام! كان “أنس” وقتها مصاباً بالتهابٍ في الكبد، وكان واقعاً تحت تأثير حالةٍ يسميها المعتقلون بـ‘‘الفصل’’، وهي تعني فقدان الشخص لقواه العقلية، نتيجة تعرضه لانهيارٍ عصبيٍ. يُصاب الكثير من المعتقلين نتيجة التعذيب والضغوط النفسية بتلك الحالة، ومن يُصاب بها غالباً ما ينتهي به الأمر إلى الموت، بسبب غياب العلاج، وامتناع المعتقل المريض تدريجياً عن الطعام، أو بسبب إعطاء السجانين الأوامر لـ”الشاويش” بضرب المعتقل “الفاصل” على رأسه، بحذاءٍ، أو ضرب رأسه بالحائط حتى يموت.
أما الحياة الثالثة، فتبدأ لحظة خروج الكائن الحي من المعتقل، عندها يعود إنساناً من جديدٍ، لكنه لا يعود الإنسان الذي كانه قبل السجن، ولا المخلوق الذي كانه في السجن، بل يكون شخصاً جديداً، ولد الآن، لم يعد عنده ماضٍ، ولا يعرف إلا اليسير عن الحاضر، ولا يملك غير الشك في المستقبل، شخصٌ ليست له ذاكرة، و لا روح، ولا حتى مشاعر، وهو سيحتاج وقتاً يتناسب طرداً مع المدة التي قضاها في السجن، ليعيد اكتشاف الحياة، واختبار الأفكار، والأحاسيس، والمشاعر، فهو لم يعتد في الطور السابق إلا الشعور بالألم، وحين يتوقف هذا الشعور الضاغط فجأةً، يشعر المرء بالحيرة، والضياع، والخوف أيضاً.
مرت بي منذ ابتدأت حياتي الثالثة الكثير من المواقف، وعبرت رأسي العديد من التساؤلات، من مثل، ما الذي أشعره الآن؟ بماذا أفكر؟ وما الذي عليَّ أن أفعله؟ فعدا التعب العام، والدائم، لا أشعر بشيءٍ تقريباً، حتى حين أداعب ابنة أخي التي ولدت بعد اعتقالي، مثلاً، غالباً ما لا أشعر بشيءٍ تجاهها، فيما يداهمني الشعور بالإرهاق، والضيق بعد دقيقتين فقط من حملها.
هل أتظاهر بأنني أفكر، أو أنني أعرف ما الذي سأفعله؟ أو أنني أشعر بالعاطفة، مثلًا؟ لكن كيف أفعل ذلك؟ فأنا لم أعد أملك ذاكرة، ودماغي متوقف عن العمل، وليست لدي أي طاقةٍ لفعل شيءٍ، وكيف يكون أصلاً الشعور بالسعادة، أو بالحنان، أو بالحزن، أو بالحب..؟ أنا في الحقيقة لم أعد أعرف!
في الواقع ليس من سبيل للإجابة على أيٍ من التساؤلات المطروحة آنفاً، ولا من طريقة لمعرفة الشيء الذي سينتهي الأمر إليه، ولا أملك في الوقت الراهن إلا الانتظار، والصلاة من أجل حياةٍ رابعةٍ أفضلٍ.
مواليد العام 1981، يحمل إجازة في الحقوق، طالب ماجستير في العلاقات الدولية – كلية العلوم السياسية، ومعتقل سابق، كاتب رأي، مهتم بالقضايا السياسية، والقانونية، والاجتماعية.