تحقيق حول الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرة النظام
536700 ليرة سورية، متوسط تكلفة سلة غذائية شهرية لعائلة من خمسة أفراد
بينما تحدد الأمم المتحدة ومنظمات الغذاء مصطلحات وتعريفات إضافية لخط الفقر، يعيش المواطن السوري هذا التعريف على جلده وعلى أمعاء أطفاله الخاوية مضاعفاً مرّات عدة، في أدق تفاصيل يومه من الصباح حتى المساء.. وربما في أحلامه / كوابيسه أيضاً.
ففي ظل الانخفاض اليومي لقيمة الليرة السورية تقل قيمة الرواتب بنفس الوتيرة، حيث يمسي الناس على حال ويصبحون على حال أكثر سوءاً. ولا يبدو أن النظام الذي دفع البلد إلى هذا الدمار يكترث لحالهم أو يضع الخطط لأية حلول ممكنة، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، ففي تفاصيل كثيرة تتضح قصدية الإذلال والتلذذ بتعذيب البشر.
نلقي الضوء في هذا التحقيق المختصر على هذا الارتفاع المذهل في الأسعار، وعلى أهم الجوانب المعيشية والخدمية التي يعانيها الناس في مناطق سيطرة النظام.
إن مراجعة سريعة لقوائم أسعار المواد الأساسية التي قمنا بجمعها من أربعة مناطق ومصادر مختلفة (دمشق، ريف دمشق، السويداء، اللاذقية) وكلها تقع الآن تحت سيطرة النظام السوري، تضعنا أمام الحقائق التالية:
1 – إن سعر السلة الغذائية الضرورية لمعيشة عائلة من خمسة أفراد تقارب في المتوسط 540000 ليرة شهرياً. (الاستهلاك الضروري من الغذاء للفرد 108000 ليرة شهرياً، أي بتكلفة يومية متوسطة لكل فرد تقارب 3600 ليرة سورية).
2 – تشمل السلة المذكورة الحد الأدنى الضروري لاستهلاك الفرد من المواد الأساسية التالية التي يحتاجها الجسم: خبز، بيض، جبن، رز، خضار وفواكه، لحم، زيت، حلويات، شاي وقهوة.
3 – لا تشمل القائمة أية احتياجات ضرورية أخرى، (كهرباء، ماء، غاز، مواد تنظيف، مواصلات، بنزين، إيجار سكن، تعليم، طبابة، تدفئة، هاتف، انترنت وغيرها من الأساسيات).
4 – المتوسط المذكور أعلاه، يتعامل مع الأسعار حتى تاريخ إعداد هذا التحقيق في النصف الأول من شهر شباط 2021، فيما تستمر الأسعار بالارتفاع يومياً بموازاة ارتفاع سعر صرف الدولار الذي كان يقارب 3200 ليرة، وهو يرتفع بمعدل 80 – 90 ليرة يومياً).
5 – هناك فروقات كبيرة في أسعار بعض المواد بين منطقة وأخرى، وقد اعتمد التقرير متوسط السعر بين المناطق الأربعة.
6 – تتراوح رواتب القطاع العام ما بين 35 وحتى 80 ألف ليرة.
7 – رواتب القطاع الخاص ما بين 100 وحتى 250 ألف ليرة، والأجر الأخير قلة قليلة هم من يتقاضونه.
8 – هناك الكثيرون ممن يعيشون على اليومية ومصيرهم خاضع لتوقفات العمل المتكررة.
تفاوت مستويات الدخل
إنه من الصعوبة بمكان احتساب دخل الفرد في سوريا حالياً؛ نظراً للتفاوتات الكبرى بين مختلف القطاعات والطبقات، ونظراً للارتفاع اليومي في سعر صرف الدولار.
ففي حين قدّر موقع numbeo المتخصص بالإحصائيات متوسط الرواتب في سوريا بـ 56 ألف ليرة سورية شهرياً في أواخر عام 2019، فقد كان سعر الصرف آنذاك 600 ليرة للدولار، وهذا يعني أن قيمة الراتب الحقيقية كما حددها الموقع آنذاك تعادل 94.26 دولار. وإذا ما احتسبنا نفس الراتب يحسب سعر الصرف اليوم (3200) فإنه سيكون 17 دولار ونصف فقط. ولم تقابل هذا الارتفاع في أسعار الصرف إلا ارتفاعات ضئيلة جداً جداً في مستوى الرواتب.
وإذا ما افترضنا أن متوسط دخل العائلة السورية من عدة مصادر للدخل يقارب 80 ألف ليرة سورية فإننا بحسبة متفائلة سوف نجد أن هذا الدخل يكفي لإطعام العائلة أقل من خمسة أيام، وهذا من دون احتساب أية مصروفات أخرى غير الغذاء.
كيف يتدبر السوريون أمورهم
لا بد هنا من العودة إلى الحكاية القديمة التي يتناقلها السوريون حول الخبراء الأجانب الذين درسوا هذه القضية من كافة جوانبها ولم يتوصلوا إلى شيء إلا قولهم أن المواطن السوري “عايش بقدرة الله!”، الحكاية القديمة تبدو الآن مأساة مضاعفة ومرعبة.
يقول ناصر من مدينة دمشق: “الكثير من العائلات السورية تعيش على حوالات الأهل ممن هم في الخليج أو أوروبا وغيرها، ولكن تدخل الدولة في هذا الشأن وتحديد سعر صرف العملات الأجنبية جعل معظم الناس في الخارج يترددون في التحويل لأن أهاليهم سيستلمون المبلغ المحول عن طريق منافذ تابعة للدولة، والتي حددت سعر الصرف للدولار بـ 1200 ليرة، بينما هو في السوق الموازي أكثر من 3000، ما يعني خسارة أكثر من نصف المبلغ. فبقي التعامل بالتحويلات مقتصراً على ما هو اضطراري وعاجل.”
ويضيف ناصر: “لا توجد مداخيل إضافية للكثير من العائلات السورية، ولعل المخرج الوحيد لمن يعمل في القطاع العام هو العمل في الفترة المسائية بمهنة ما في القطاع الخاص كسائق تكسي مثلاً، أو أن يقوم الشخص بعمل بسيط كنصب بسطة فول أو سندويش أو غيرها”.
حتى الأطفال..
وفيما يبدو أنه من المستحيل أن تعتمد العائلة على معيل واحد أو حتى اثنين، فلا بد من أن ينخرط الأطفال أيضاً في سوق “العمل”، من بائعي العلكة والمحارم إلى بيع الألم والحاجة عبر التسوّل.
في هذا السياق تتحدث عبير من السويداء بحسرة عن الأطفال الذين يتركون مدارسهم لتأمين بعض الليرات الإضافية، “التقيت بطفل بعمر 10 سنوات تقريباً، طبعاً هذا الطفل ليس مسجّلاً بالمدرسة لأني رأيته بأوقات الدوام، كان عند مبنى التربية يبيع كمامات والجو بارد جداً، سألته: “خالتو بقديه الكمامة؟”، قال: “بـ 100 ليرة”، أعطيته مبلغاً وقلت له: “ليك أنا حاطة كمامة ما بدي كمامة وهذول إلك”. لا أنسى نظرته، وظليت فترة كلما أتذكرها تدمع عيوني”.
هناك بالطبع حكايات كثيرة أكثر وجعاً وأكثر بشاعة، حكايات التشرد والتسوّل والضياع، حكايات العصابات والسرقة والجريمة، وحكايات الخطف بقصد طلب الفدية.. والتي لا بد أن تزدهر في مثل هذا الجحيم.
الاستغناء.. حتى الرمق الأخير
ويبقى “الاستغناء” هو سلاح السوريين الأمضى في مواجهة الغلاء، حيث تنكمش السلة الغذائية إلى الحدود الدنيا التي لا تسدّ الرمق، وليست نادرة تلك العائلات التي تعتمد على الخبز وأشياء بسيطة مكملة، حيث يبقى الخبز المدعوم هو الحصن الأخير في مواجهة الجوع. وتحافظ ربطة الخبز المدعوم التي تقلصت إلى سبعة أرغفة على سعر معقول حتى الآن (120 ليرة)، مقابل ربطة الخبز السياحي التي يصل سعرها إلى 1200 ليرة سورية بفارق عشرة أضعاف. وذلك من دون التطرق إلى جودة الرغيف المغمس بالذل في سبيل تحصيله.
وقد حدد النظام استهلاك الخبز وأشياء أخرى بكميات معينة يتم شرائها عبر “البطاقة الذكية” وأضحت ساعات الانتظار في طوابير الخبز الطويلة جزءاً أساسياً من يوميات السوريين.
الحياة على إيقاع الأزمات والطوابير
فوق ذلك كله تأتي أزمات الطاقة من كهرباء وغاز وبنزين ومواد التدفئة وغيرها لتتوج سياسات الفقر والإذلال والتنغيص المقصود لحياة الناس، يقال إن النظام لازال يبيع الكهرباء للأردن ولبنان ليحصل على مداخيل إضافية، بينما يقطعها عن شعبه في كل المناطق.
في هذا السياق توضح ياسمين من ريف دمشق أن الكهرباء مقطوعة أغلب الوقت في كثير من المناطق والمحافظات، وتعتبر الأوضاع في الشام وريفها أفضل نسبياً من مناطق أخرى، حيث تحضر الكهرباء بالتناوب ساعتين وتُقطع 4 ساعات.
وتعلق ياسمين على ذلك: “بدك تقسمي يومك ودراستك وحمامك وشغلك وتنظيف البيت والغسيل وكل شي ع هوا هدول الساعتين اللي بتجي فيهن الكهربا”.
في السويداء أيضاً يقسم الوقت بين ساعتي كهرباء وأربع ساعات انقطاع، لكن في أوقات مختلفة عن دمشق. تقول سمر من شهبا: “أقضي يومي في انتظار الكهرباء، وعندما تأتي أهرب لمكنسة الكهرباء والغسالة وكل الأشياء الضرورية، ولا تكاد تنتهي جولتي بالأشغال المنزلية حتى تعود الكهرباء للانقطاع”.
تفصل هيفاء من اللاذقية في هذا الموضوع أكثر: “الكهرباء عندما تأتي لا تحتمل الكثير من الضغط، يجب أن نختار ما بين تشغيل السخان أو الفرن والغسالة أو غيرهما، كثيراً ما تنقطع الكهرباء في منتصف دورة الغسيل ليكون مصيره العفونة والروائح الكريهة”.
وتشرح هيفاء التي تعتبر نفسها من العائلات الميسورة والتي يصادف أنها وزوجها يجهزان شقتهما الجديدة، كيف أن مسألة انقطاع الكهرباء تلقي بظلالها على كل الدورة الاقتصادية في البلد “بيجي معلم طولو وعرضو وعندو بيت وعيله، بيشتغل ساعتين بس وباقي النهار قاعد ناطر الكهربا”.
في هذا السياق يقول ناصر من دمشق: “بشكل عام حياة المواطن السوري صار إيقاعها يتناغم مع الواقع المعيشي البائس، فهو ينام ويصحو وفق متطلبات الحياة التي تفرضها حالات التقنين وندرة فرص تأمين احتياجات الحياة المعيشية اليومية. بعض الناس صارت مضطرة للذهاب إلى الفرن منذ ساعات الفجر الأولى لشراء الخبز، ما يجعل حياة هؤلاء جحيماً مبرمجاً على إيقاع الأزمات”.
كورونا أرحم !
الطوابير في كل مكان، ولا مفر من الاكتظاظ يضيف ناصر بشيء من الهزل، وشر البلية ما يضحك: “بوسع الشعب السوري دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية كصاحب أطول طابور في العالم، سواء على الخبز أو على المازوت والبنزين. ويزداد الذل عند تخصيص أقفاص -لا تزال موجودة رغم نفي الحكومة- عند شبابيك الأفران. الدولة غير مكترثة لمثل هذه الطوابير لجهة الحرص من تفشي كورونا، والناس لا علاقة لها لا بالكمامات ولا بالتباعد، ولسان حالهم يقول: الموت بالكورونا أرحم من الموت برداً وجوعاً”.
وعند سؤال ياسمين التي عانت مؤخراً من المرض الشديد عن وضعها الصحي وإن كانت فعلاً مصابة بالكورونا، وهل أجرت الفحص، قالت “فحص شو؟ الله يسامحك! تكلفة الفحص 50 دولار، والله إذا ما طلع معي كورونا بنجلط”!!
وفيما يبدو واضحاً أن الناس العاديين هم الأكثر تأثراً بسياسات النظام وتقنيناته، فإن الواضح أيضاً أنهم الأكثر تأثراً بالسياسات الدولية والحصار وقوانين قيصر، والتي لا يبدو أنها تنال من عنجهية النظام وصلفه واستبداده، ولا من إمكانيات بقائه الأبدي فوق صدور المساكين.
كاتبة صحافية وناشطة سورية من الجولان المحتل، نائب رئيس تحرير طلعنا عالحرية.