الهوية الجوهرية: القومية أو المذهبية، هي هذا العائق. ليس ثمة ذات بلا هوية، ولكن، هنالك هوية/ هويات بلا ذات وذوات. هنالك “نحن” فارغة، لا تدل على أفراد مختلفات ومختلفين، ولا تدل على نسيج تاريخي هو شكل وجودهم.
الذات معطى وجودي؛ الهوية ليست كذلك؛ الأخيرة معطى ثقافي: اجتماعي – اقتصادي وسياسي، ولكنها معطى ثقافي أولاً وأساساً. وهي دالَّة على الوجودي، بتعبير المناطقة، أي تابعة لمتغير هو الوجود الإنساني المتعين في الأفراد والجماعات، دالَّة على ذوات الأفراد والجماعات والأمم والشعوب، كالصفة التي تتبع الموصوف في جميع أحواله. العلاقة بين الهوية والذات هي شكل العلاقة بين الوجودي والاجتماعي، وبين الطبيعي والوضعي. يستدل على ذلك بالتطور التاريخي للذوات، بدءأً بالتفاعل مع البيئة الطبيعية وصولاً إلى القدرة على جعلها موضوعاً للمعرفة والعمل، باختراع اللغة واختراع الأدوات، ما يؤكد الصفة النوعية للإنسان، التي لا تتجلى في المعرفة أو الإدراك فقط، بل في معرفة المعرفة وإدراك الإدراك، تتجلى في الثقافة التي هي أول رأس مال إنساني. الإنسان يعرف، ويعرف أنه يعرف، ويستطيع أن يطور معارفه ويرهف إدراكاته، ويغير نمط تفكيره وسلوكه أو يعدله ذاتياً، على نحو ما صار بوسعه أن يعدل البنى الجينية والهرمونية وبنية المادة الفيزيقية أيضاً.
عمليات تعديل نماذج التفكير والسلوك تشبه عمليات التعديل الجيني الذاتية شبهاً كبيراً، جراء التبادل والتفاعل الدائمين مع البيئة الطبيعية والاجتماعية، لولاها لظل الإنسان محدوداً بغرائزه، كالحيوان. هنا تتجلى أهمية رأس المال الثقافي إنتاجاً وتداولاً وإعادة إنتاج، لأنه هو الكفيل بتعديل نماذج المعرفة والسلوك أو إعادة إنتاجها، أي هو الكفيل بتعديل مصفوفات المعارف والمدركات والأفكار والمعاني والقيم وعلاقاتها المتبادلة، وإعادة تشكيل صورة العالم في الذهن. عمليات التعديل الذاتي لرأس المال الثقافي، أي تعديل نماذج التفكير والإدراك والتقدير والعمل والتواصل، مرهونة بعلاقة / علاقات حرة بين الأفراد والطبيعة من جهة، من خلال العمل والإنتاج الاجتماعي، وبينهم وبين البيئة الاجتماعية والإنسانية، من جهة أخرى، من خلال الفاعلية / الانفعالية والتواصل وتبادل المعارف والخبرات، علاقات لا تحددها مسبقاً أي اعتبارات دينية أو إثنية أو جنسية، وإلا فنحن إزاء عمليات تربوية وتعليمية وتلقين أيديولوجي وفرض ثقافي تحاول كلها حصر المعرفة والثقافة في دائرة ضيقة لا تتعداها، هي دائرة الهوية المغلقة والثابتة، التي تُغلِق على الذوات وتنغلق دونها.
ثمة مستوى إدراكي لدى البشر يشبه المستوى الإدراكي لدى الحيوان. يتجلى هذا المستوى عندما يُجرَّد الإنسان من إنسانيته وتمكُّنِه من التفكير المستقل والتمثُّل الحر وقدرته على الإبداع، وسلب حقه في الكلام وحرية التعبير والتواصل، ويُحوَّل إلى مجرد كائن بيولوجي، أو مجرد موضوع ووسيلة وأداة، على نحو ما تفعل ثقافة التسلط والاستبداد، حين تفرض نماذجها المعرفية وأفكارها وتصوراتها وقيمها، وتغرسها في نفوس الناشئة وأذهانهن وأذهانهم، بدءاً بكيفية استعمال اللغة وفرض دلالاتها على أنها الحقيقة الكاملة، التي ترتكز الهوية عليها.
الحقيقة الكاملة تشبه المعرفة الكاملة لدى الحيوان، المعرفة التي لا تتعدى حدود الغريزة. لذلك يمكن وصف الثقافة التسلطية بأنها تغريز المعرفة، أي تحويلها إلى ما يشبه الغريزة، بحيث لا تتعدى حدود الهوية الثابتة وحدود خطابها. “الفكر القومي” الدوغمائي والتربية القومية الاشتراكية، و”الفكر الديني” الدوغمائي والتربية الدينية نموذجان نقيان لهذا التغريز، لا يقبل أي منهما بأقل من الحقيقة الكاملة، ويحرص على اجترارها وإعادة إنتاجها. فلا بد من تفكيك هذين النموذجين المتضامنين، للأوبة إلى الذات وإبداع حياة إنسانية تليق بالإنسان.
“الحقيقة الكاملة”، الدينية أو القومية، هوية بلا ذات، لا تزدهر إلا بموت أفرادها في سبيلها، أو التضحية بهم على مذبحها. ولو حاول أحدنا فحص هذه “الحقيقة” لتيبن له أنها السلطة ولا شيء غير السلطة، بصفتها مصدر الثروة والجاه. هكذا الأحزاب العقائدية والجماعات التي تسمي نفسها مقاومة إسلامية، كحزب الله وحركة حماس وشقيقاتها.. أو سلفية جهادية، كتنظيم القاعدة أو دولة العراق والشام وجبهة النصرة وأخواتها، وهكذا الجماعات الإثنية والمذهبية، العنصرية.. كلها جماعات تحولت لديها المعرفة والثقافة، بالتربية والتعليم والتلقين، إلى ما يشبه الغريزة، التي لا تزال ثاوية في الخافية البعيدة للأفراد والجماعات ومرقونة في جيناتهم.
فلا يمكن فهم نزاع الهويات المنفلت من عقاله اليوم إلا بكونه نتاج الثقافة التسلطية وثقافة الاستبداد، التي تعصف بالكيان الإنساني للأفراد، فتمسخ الذوات، وتختزلها في هوية قومية أو مذهبية، أو حزبية لا تزيد على كونها خطاباً، ولا تزيد على كونها “نصاً” هو هامش على متن أسطوري وخرافي أو عنصري. لنفكر في القتل على الهوية والمجازر الجماعية وعمليات الاغتصاب وتعذيب المعتقلين حتى الموت، علاوة على استعمال الأسلحة الفتاكة لمحاربة “البدعة”، أي الحرية، ودرء “الفتنة”، أي الثورة. أليست هذه كلها نتاج ثقافة هووية، قومية ومذهبية وحزبية عقائدية؟
ولنفكر قبل ذلك ومن أجله في آليات الاصطفاء والنبذ أو التهميش ومعاييرهما، في أثناء إعادة إنتاج رأس المال الثقافي والاجتماعي والمادي ورأس المال السياسي، سواء تعلق الأمر باصطفاء الدلالات وإنتاج المعاني والقيم، أو باصطفاء الأفراد، وهما عمليتان متلازمتان. ولنفكر في ضوء هذا وذاك في تنافسية الأفراد والجماعات ومعاييرها، وقد اختزلت إلى مجرد الانتماء والولاء، أي إن المعيار الهووي: الإثني أو المذهبي أو الحزبي.. بات معياراً وحيداً للفوز أو النجاة. لنفكر في ما غُرس في نفوسنا وما غرسناه في نفوس الناشئة، على مدى العقود الماضية، وحان وقت الحصاد. ولنفكر أخيراً في الطابع التكراري الأجوف للثقافة الذي يطفئ شعلة الإبداع، وهو الأكثر دلالة على تغريز المعرفة.
كاتب وباحث سوري