تبدو النزعة الخلاصية هي إحدى سمتين تكوّنان الطيف الأعم في العمل الثوري والمعارض في كل مراحله؛ وهي أن يتقدم إسقاط الأسد على كل ما سواه. ففي نظر السوريين الذين ضاق ذرعهم من عقود حكم الأسدين الطويلة، ورأوا انتصارات سريعة للثورات حولهم، كان كل شيء “مقدوراً عليه” بعد إسقاطه. وقد أثبتت السنين العشر الماضية التي استطاع الأسد فيها البقاء في الحكم أن في ذلك جانباً من الصواب، لكنّ شيئاً من “المقدور عليه” لم يحدث خلالها. فأصبح أمر ترتيب البيت الداخلي للثورة ثانوياً، وبرزت “قيادة” لا تمثّل ما تدَّعيه ولا تقوى على قيادة فعلية، وظهرت مسميات أوسع من التشكيلات التمثيلية التي تحملها. نحت النزعة الخلاصية إذن إلى نزق وضيق صبر، وتعدت الطموح الجامع إلى احتكار تمثيلي، والمشروع الوطني إلى “إسقاط الأسد” وحسب. حتى ظهرت لنا تشكيلات سياسية وفصائل عسكرية قامت بتفريغ المشروع الوطني الذي بُنيتْ عليه الثورة وداست عليه. وما زال الأمر على هذا الحال حتى يومنا هذا، ولم تخفت غلواء المزاودة بإسقاط الأسد وإن تبدلت أشكالها.
لم تكن النزعة الخلاصية عاملاً مساعداً لهدفها، وإن كانت العوامل الحاسمة الإقليمية والدولية تتخطاها. لدينا في هذا الشأن التباسٌ، سهّل على محبي جلد الذات النزوع نحو تصوير بقاء الأسد حتى اليوم كأنّه “ذنبنا”. سنصطلح على تسميتها “النزعة الجَلدية” مقابل النزعة الخلاصية، وهي السمة الثانية. ففي حين وجود حكم أسدي لم يقدم أي تنازلات أو إصلاحات سياسية في الجوهر، ويتعامل مع معارضيه بالطريقة التي شهدناها في صور قيصر، ومع عدم وجود إرادة دولية فاعلة لإزاحته، وانتهاجه للعسكرة والعنف واستقدام المزيد من العنف في حل تحدياته، تصبح النزعة الجَلدية مزيجاً من التبسيط وردّ النتائج إلى طبيعة قارّة فينا. في كلتا النزعتين استجابة لميول سياسية ولمواقع إيديولوجية وما نتج عنها من مرتبة الانخراط في هذا الواقع.
وللنزعتين الخلاصية والجلدية انحدار جليٌّ من تحطيم السياسة الذي انتهجه الحكم الأسدي تجاه السوريين، فتواءمت النزعتان مع ضحالة الخبرات العامة وتبسيط المشاريع السياسية وتهميش الكثير من العوامل الداخلية والخارجية وضعف مقاربة الواقع في الفعل السياسي المعارض. فأصبحت مقولتا (مشاكلنا كلها من الأسد) و(نحن شعب ما بيسوى) تختصران تعريف المسألة السورية لدى الفئة الأوسع في المعارضة ومؤيدي الثورة. مع تجاوز النزعة الجلدية للحصر لدى المعارضة، حيث تنتشر في أوساط المؤيدين أيضاً.
يلزم اشتغال أكبر على النزعتين، معرفياً وسياسياً، لتفكيكهما والحد من تداعياتهما على الشأن العام. حيث إن ما تولّدانه من العطالة والعدمية السياسية تهددان بالهدر سنين أخرى قد تكون طويلة، وتعرضان الكسر لجبر غير سويّ. وبما أن المسألة السورية، بعد عشر سنين كارثية، وصلتْ إلى حالة استعصاء وتموّت بطيء، فإن العمل المعرفي وإعادة بناء المجال السياسي بما يتناسب مع ما قد استقر عليه الحال اليوم، قد يكونان أنسب ما ينشغل به السوريون المعارضون اليوم، لتجاوز الانكسارات وضياع مشروعهم السياسي. وإن تم ذلك ببطء وبنتائج بعيدة زمنياً، فربما ذلك الزمن يلزم أيضاً.
من درعا، مواليد 1986. طبيب أسنان وكاتب وناشط مدني يعيش في الغوطة الشرقية