يتكلم دون “شازلونة” يستلقي عليها كما في الأفلام. كانت جلسة العلاج النفسي عبر الانترنت.. ولم يكن الطبيب النفسي بنظارة مدورة ولحية مشذّبة، ولم يدخن الغليون، لكنه حافظ خلال كل الجلسات على صوت هادئ ودود ولغة رصينة..
ثلاث قارّات وعدة محيطات كانت تفصل بين الطبيب المعالج و(المريض) الذي يقاوم مسّ الجنون.. وقصف الطيران ووابل البراميل وخنق الأسعار والحصار.. والسارين!
جلسة.. اثنتان.. ثلاث..
زولوفت.. بروزاك..
شهيق.. زفير..
لم تبد جملة الطبيب الوقور متناسبة مع الاحترافية العالية التي تلبّسها خلال الأسابيع السابقة: “ألم تكن أرضي واسعة فتهاجروا فيها..”، لعلّه قدّر أن اقتباس آية من القرآن سيضفي بعض القداسة والروحانية على جلساته.. لكن الاقتباس ختم سلسلة الجلسات وأوصل رسالة غير مرغوبة.
…
رغم ظروف عاتية، تمسّك كثير من السوريين بقرار البقاء في بلدهم، وبعضهم أضطر للبقاء لانعدام الخيارات الأخرى.
لا نتكلم فقط عن السنوات العشر الأخيرة، وعن الحرب والتهجير والإخفاء القسريين والتجنيد الإجباري وداعش وباقي البلاوي التي ألمّت بالبلد وأهله.. لطالما كان السفر والاغتراب ظاهرة سورية ملحوظة.. الجميع يسافرون، ويتغربون ويكتبون الأشعار والأغاني عن الرحيل والفراق والغياب.. لكن المسألة عندنا أكثر من السفر للعمل أو الدراسة أو العلاج. ولا يبدو أننا نسافر لتلك الأسباب التقليدية.. بل إننا (نطفش) متذرعين بها أو حتى مصرّحين بسبب رحيلنا (الطفش)!
لماذا يسافر (أو يطفش) السوريون؟ ولماذا لا يسافر بعضهم؟ وكيف ينظر من طفش إلى من بقي؟
وفي سياق السفر، تشكلت ثنائية، مشحونة في أغلب الأحيان، عن (الداخل والخارج) وصار الحديث عن من أفضل مِن مَن، ومَن يعاني أكثر مِن مَن، واحدة من جدلياتنا الكثيرة..
يروى بأن قائداً روميّاً سأل خالد بن الوليد في أحد فواصل معركة اليرموك: “هل لمن يدخل في الإسلام اليوم مثل ما لكم من المثوبة والأجر؟” وأجاب خالد: “..وأفضل”، فتعجب الرومي: “كيف وقد سبقتموه؟” ليردّ خالد: “لقد عشنا مع رسول الله، ورأينا آياته ومعجزاته، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر، أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه ثم آمنتم بالغيب، فإن أجركم أجزل وأكبر إذا صدقتم الله سرائركم”.
بعيداً عن مزاودة “تحت المكيفات، ومعارضة الفنادق، وارتشاف النسكافيه..”، وبنفس منطق خالد، ربما أمكن مقاربة انخراط مغتربين ومغتربات خارج سوريا في العمل الثوري، وبذلهم/نّ المال والجهد والأعصاب..
فكيف لمن لم يبحّ صوته في مظاهرة حيّة على بعد خطوة من جنود القمع والشبيحة أن يحافظ على حماسه؟
..في المظاهرة، يسري تيار كهربائي في المتظاهرين ويحيلهم جسداً واحداً هاتفاً.. فكيف تصل الكهرباء إلى أصدقائهم عبر اليوتيوب؟!
هل ينقل فيسبوك بقعة الدم على قميص الناشط الذي يسعف للمشفى الميداني زميله المصاب برصاص جنود الإجرام؟
يبدو أن التواصل حصل، عبر وسائل التواصل أو بطرقه الغامضة.. ولكن بقي السوريون مغتربين حتى وهم داخل بلدهم؛ فنحن، كما كتب الراحل محمد الماغوط، من ضيعة اسمها غربة!
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.