مجلة طلعنا عالحرية

في الحِلِّ والتَّرْحال..

عهد زرزور

من يدري كيف بدأ الأمر؟! ينتابنا القلق، وتأسرنا فكرة الرحيل والتخلي حيثما تعوّدنا الوجوه الأليفة، التعوّد المحبب صار منفّراً، وانتهينا كائناتٍ وحيدة تبحث عن وجوه صفراء غريبة لا تشبهها، أو أنها تشبه جذورها المفتتة.
في البلاد البعيدة، لا يبحث السوري عن السوريين بل يبحث عن نقصانهم! عن شوارع لا يلقى بها وجهاً يعرفه، كأنه يبتعد بُعدَين؛ بعداً عن المكان وبعداً عن أهل المكان، فيتم بهذا رحيله المكتمل.
في يوم شتوي عزمت الرحيل واجتاحني الهرب مما تعودت، على عكس طبعي الأليم في أن أنغرس؛ فطالما تمنيت أن أكون شجرة في حياة موازية، لكن زلزال البلاد هزني مع ترابها وجعل مني كائناً رحّالاً، لا تستقر لي أرض ولا حال. لم أتخيل يوماً أن أعدّ المدن التي زرتها، وأسجّل مشاعر الحب واللطف والقسوة على دفاتر كثيرة في ملحوظات عابرة، ولم يخطر على البال أن ألقى أصحاباً في بلاد السائحين والأسفار.
كان الرحيل مفتاح نجاة واصطبار. في اللجوء إلى البعد انقسمتُ إلى ذكريات أماكن؛ في مدينة أترك فنجان قهوة لم يكتمل، وفي أخرى أثراً على وسادة، وفي ثالثة شباكاً مفتوحاً على الغيب.. أحمل صوراً في حاسوبي وصوراً على ظهري لمحطات الانتظار. أنجو من علّة الهويّة واللغات المتكاثرة في رأسي، كلمات تتراكم لأستحضر لساناً غير لساني يعبر بي من المأزق. وأصبّر نفسي أني أعود، أعود في يومٍ ما إلى ذاكرتي القديمة عند شجرة الزيتون.
الرحيل أيضاً حفلة مؤجلة للحزن الجميل، أدفع بقدمَيّ حيثما وصلت كي تتعب وتنسى شكل البيت، وتنسى تلك النسمة اللعينة التي دخلت القلب حين نزلت شارع الوادي وما خرجت منه، وحين وقع قطاري اللعبة على كراج الجيران، ولم أسترده يوماً! جسدي ينقذني من مآلات البقاء والحلول بالأشياء، تمرّ الآن أيامي بلطف، لكن لا أُلقي بالاً كبيراً كالذي كنت ألقيه قبل الرحيل الكبير.
لم يُنجِني الرحيل من الموت ومن يد الجلاد فحسب، بل من نفسي المتشبثة بالأشياء والناس، ولو عادت بي الأيام لربما اخترت رحيلاً أقدم وأقسى، أو رحيلاً لا يحمل التفاتة أو وجهاً أولغة!
أنظر من بعيد لأستشعر حقيقة النجاة والمسافة بيني وبين الأرض والناس. في خفة هائلة أتحرر من أعينٍ وأيدٍ وسجلات وتقارير مروية عن تحركاتي وأفكاري وتطبيقي الاجتماعي للأعراف، عن أفقٍ مسدود وسقفٍ يحني العنق. كأني برحيلي أدفع السقف لأستقيم.
ومع هذا لم يعفني الرحيل من القلب الساخن، ومن التلصّص على الأخبار والكارثة، ولا من عقل يدور في قرص الشمس يبحث عن نجمة يستهدي بها إلى البلاد. يبدو أن قدر الابنة مكتوب على لوح لا يذوب، ستحنّ طالما وُجد الحنين.. في الحل والترحال!

Exit mobile version