بشرى البشوات
أرغب حقيقة في معانقته لكنني لم أفعل كثيراً منذ سنوات الحصار.
فالشرك الذي طالما نصب لنا ووقعنا فيه تسعى دائما حضارة الرجل إلى تجديده، وما علينا سوى أن نحسن الوقوع فيه.
يُعبّر عن العلاقة بين الرجل والمرأة كظاهرة اجتماعية من خلال مؤسسات وبنى اجتماعية وثقافية ودينية، تبدو فيها سطوة الرجل, ومرّد سطوة الانتصار هذه إلى وهم التفوّق وحسم مسألة الصراع الزائف لأجله.
في سينما المخرج السويدي “انغمار بيرغمان” وبلحظة ما يعترف ممثلوه بجملة من الخطايا، الاعتراف بالخطيئة نتيجة الخروج إلى هذا العالم, والاعتراف بنمو طفلة في جسد امرأة، والاعتراف الأخير بأنّ هذه المرأة ربما تموت وقد فشلت في الحب وضاق العالم عن احتضان أحد لها. لكن في الحصار يستمر إبقاء المرأة مشغولة البال غير مرتاحة بتواتر مقيت، على المرأة أن تتدّبر النجاة من تلك العاصفة المُسمّاة “الحرب” التي قطعت كل ذلك اللحم وتركت كل أولئك النساء في نزيف مستمر.
يدخل حصار الغوطة سنته الرابعة تقريباً, ولم تنجح كل التقارير والبرامج والتحقيقات التي أعدت عن الحصار، في إيصال العمق والبعد الإنساني الحقيقي لمعاناة النساء، فالرجل المتحفز واليقظ والفعال، الرجل الذي يقفز هنا ويقاتل هناك ويرفض أن يتراجع، هو ذاته الذي نسي كيف يعانق الحبيبة. فالرجل الذي يبكي في حضن أمه ويعانق أخته، لا يستطيع أن يمطر الحبيبة أو الزوجة ولو بنظرة، في باطن العلاقة يصير الأمر مختلفاً. هناك حقيقة ترصدها مقاربة مختلفة لعلم النفس، وهنا نتذكر رأي عام النفس الأشهر “فرويد” من أنّ داخل الإنسان يتكوّن من ثلاث مستويات (الشعور- اللا شعور- والهذا), فحين يذهب هذا العلم في البحث بعيداً إلى ما “بعد الشعور”, يضعنا أمام دلالة صادقة تفيد بأنّ القاع النفسي للرجل مغمور بالحصر ويضمر بعداً عقدياً في التعاطي مع المرأة الحبيبة. فالمرأة التي أودعت روحه في رحمها تحولت في قاع نفسه إلى رمز للموت، فيموت لأجلها لكن لا يستطيع أن يعانقها، في حين تبحث هي عن جسدها بين أجساد الأخريات في هذا البيت المحاصر الذي يضج بالنساء، شقيقات وأم، وزوجات أخوة.
نحن نميل إلى الوجع أكثر حتى لو حاربنا الشر، البشر يميلون إلى التصرف بغباء, كأنّ نتصرف منطلقين مما نسميه دوافع عليا، لا يمكن أن يكون كل هذا الدمار هو دمار عشوائي، إنّه تدمير ممنهج ويقصد منه قتلها هي دون غيرها, أي قتل المرأة، وعليه فإنّ كل الخطابات التي هدفت إلى تقليص البؤس والفقر والنبذ وكل أشكال الإقصاء التي مورست ضد المرأة هي خطابات جوفاء.
تعيش المرأة تحت الحصار وخارجه, تعيش في الحياة حالة اغتراب قصوى في عالم يتكشّف يوماً بعد آخر عن كونه سجنها الكبير، في هذا العالم تحولت المرأة إلى موضوع سلعي، أدرجها الرجل في حضارة شاء أن تكون حضارته هو، بوصفها أحد أثمن الأشياء على قائمة السلع وأجملها. لتغدو المرأة كائن الاغتراب المضاعف، أولاً لأنها اغتربت في دنيا الرجال, وثانياً لأنها حين أحسّت بالاغتراب وخالجها التوق إلى الحرية، راحت ترى إلى ذاتها كما إلى العالم بعين الرجال، بمفاهيمهم وتصوراتهم فهي كمن استعار مرآة الرجل كي ترى ذاتها، فما رأت سوى شبح توهمت أنه المرأة.
في الحرب يموت الرجل ربما مرة واحدة في حرب اخترعها هو وسيوقفها هو، فيما موت المرأة مرّات مضاعفة، فلا الحرب حربها ولا السلم بيدها، ومع ذلك تبكي المرأة دماً على زوج أو أخ أو ابن أو حبيب أو قريب. في عالم لا يعرف الحصار, لن ترسل الأم أبنائها إلى الحرب، وستقول المرأة التي كانت في الحصار لن أبحث عنك بعد الآن، لأنك الآن هنا، هنا.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج