يحيا في بلاد إسمها سوريا، تقع في قلب المتوسط المائل نحو شروق الشمس. الحروف الأبجدية الأولى نبتت فيها، إيقاع حضارتها موزاييك من اللغات والأديان والقوميات التي عبرتها والتي استقرّت في قلب جغرافيتها وتاريخها.
فتحت سوريا بواباتها بعد خمسة وأربعين عاما من استبداد الحزب الواحد والحاكم الواحد، تُحرّر الكلمة من السكوت. فتمددت أحزان المعاني وطاف دمها .
في آذار 2011، فتح ملايين الشباب والصبايا أبواب بيوتهم وخرجوا للمرة الأولى إلى شوارعهم في تظاهرات شعبية سلميّة يصرخون بما ينام ويصحو في صدورهم: حريّة .
كانوا عُزّلاً إلا من “ الكلمة “ كانوا ولا يزالون.
جابههم النظام الأمني بالنار، نار الرصاص والمدافع والصواريخ والدبابات والطائرات، أطلق عليهم من الطائرات براميل متفجرة … ورماهم وهم نيام بالغاز الكيماوي القاتل. سكت منهم مائتا ألف مواطن سوري، واعتقل مائتا ألف واختفى مائة ألف المرجح أنهم قتلوا تحت التعذيب. وهجّر ثمانية ملايين داخل سوريا وخارجها، ولا يزال من بقي حياً يحكي الحكاية .
كان يا ما كان : استعان النظام بحلفاء له، كالنظام الروسي حامي الاستبداد. والنظام الإيراني الذي تحكمه ولاية الفقيه واستعان بالصمت العالمي عن المجزرة كأن سوريا ليست من هذا العالم! .
استدعى النظام بواسطة “الحلّ الأمني” الذي اعتمده في اخماد الثورة، المتطرفين الإسلاميين من القاعدة ومثيلاتها، وأطلق البعض منهم من سجونه خصيصاً ليقنع العالم المتمدن بأنه يقاتل وحوش الإرهاب، فتعاضد الطرفان كلّ من أجل مصالحه الخاصة، على تدمير حياة السوريين وعلى إسكات صوت الحرية. وسكت العالم الديموقراطي عن المجزرة .
إنهم يسرقون روح ثورتنا، لكننا لن نتوقف ما حيينا عن رواية الحكاية.
استمرّ السوريون في الثورة السلميّة، إبداعياً، بالتصوير وأفلام السينما والشعر والروايات والغناء والموسيقى والفنّ التشكيلي والمسرح والفكر … أصرّوا على ثقافة الحياة في وجه ثقافة الموت .
ممحاة هائلة، ممحاة هائلة تمحو آثار الحياة، وكأن السوريين الذين قتلوا أو اعتقلوا أو هجّروا أو … ! لم يكونوا.
كانت كلما علت سلميّة الثورة، التي تدعو إلى وحدة الشعب السوري وإلى دولة ديموقراطية تتحقق فيها الكرامة والمواطنة المتساوية والعدالة الإجتماعية. دولة مدنية لا دينية ولا عسكرية تليق بمواصفات العيش المشترك التي هي جينات المجتمع السوري، تعلو حدة العنف وشراسة النظام والمتطرفين، لتدخل السوريين في ظلام حرب طالما قاوموها ورفضوها …حرب “ تغتصب “ حياتهم يُقحمون فيها عنوة … احترقوا ولا يزالون يحترقون بنارها.
ورّط النظام الشعب والجيش في حرب … سوريا والسوريون هم الخاسرون فيها. أيقظ الطائفية الغافية في حضن الوحدة الوطنية… الوحدة الوطنية الغالية، كنزنا المدني الأهلي، التي هتفت لها الشوارع السورية منذ بدء تاريخنا ومنذ اللحظة الأولى للثورة: “ واحد واحد واحد … الشعب السوري واحد . “ .
و “أوقفوا القتل نريد أن نبني وطناً لجميع السوريين” .
اتكأ إعلام النظام على ازدياد قوة الكتائب المتطرفة التي بدأت تتكاثر على أرض سوريا ، تدخل بلادنا بعتاد حربيّ متين وتمويل مكين من أطراف متعددة عربية وعالمية، تحتل مناطق آهلة بسكانها وعاداتها، تُخضعها لحكم استبدادي يستعين بالمقدس الديني، فوقع الشعب بين فكي الإرهاب العسكري والديني.
كانت التظاهرات في شوارعنا تناشد العالم الديموقراطي وتنشده، ولم يفهم السوريون كيف محا هذا العالم، كيف يمحو يوماً بعد يوم، قصّة موتنا اليومي المعلن من يومياته ومن نشرات أخباره ومن أدبياته. كيف لا تلفت أنظاره شبابيك بيوتنا المشرّعة بقوّة الحريّة على قوّة المحبّة، بيوت السوريين الآهلة بالشجاعة والكرامة والسلام .
كان يا ما كان .. كان الآن … الحصار .
شعب يريد العيش بكرامة ، ويريد الإفراج عن معتقلي الرأي في سجون النظام وفي سجون المتطرفين الإسلاميين . يريد عودة اللاجئين والمنفيين والمهجرين إلى بيوتهم… ويريد طرد المحتل الإستبدادي الديني والإستبدادي العسكري.
يا أحرار العالم… اصرخوا في وجه هذا الصمت الذي تذبح فيه سوريا كلّ يوم … واليوم… والآن.
أوقفوا هذا الصمت الذي يخنق سوريا في حصار الجوع والعطش والكرامة، كأنه تواطؤ عالمي! اصرخوا كي تتوقف المجزرة!
اصرخوا معنا كي تستيقظ العدالة.
نحن نؤمن بقوة الكلمة الحرّة .
اصرخوا كي تستعيد سوريا حكايتها تحت ضوء القمر.
اصرخوا… كي تستعيدوا حكايتنا معنا … كي نستعيدها معاً.
كاتبة وشاعرة سورية، مخرجة سينمائية تسجيلية