مازلنا بعيدين عن تقرير مصيرنا والتحكم في خياراتنا، أو في الحقيقة ليس لدينا خيارات، بل مجرد طرق إجبارية تم رسمها سابقاً بيد نظام استفرد بنا بكل طاقاته الحربية وقوته العارية وتفوقه العسكري والتنظيمي والمادي، ويتم رسمها اليوم بأيادٍ إقليمية متنازعة تديرها أمريكا من الأعلى وإسرائيل من الخلف.
ليس معنى ذلك هو افتقاد الإرادة العامة بالتغيير، ولا أننا مجرد عجينة تأخذ الشكل الذي يريده من يقوم بعجنها، بل معناه إن محصلة جمع القوى المؤثرة في النكبة السورية وعلى أرضها، والتي تشد كل منها الوضع باتجاهها، تساوي الصفر. وأن إرادة الشعب السوري التي خرجت تطلب الحرية لم تعد في مواجهة النظام وحده، بل أصبحت في مواجهة التاريخ بكل قواه الفاعلة فيه وفينا اليوم، مثلما أصبحت في مواجهة انقساماتها وتعددها وضياعها في التعدد والاختلاف.
تعيش سوريا اليوم فصلاً من فصول الجحيم المستمر منذ ثلاث سنوات ونصف السنة، ويمكن تسمية هذا الفصل بفصل استواء الجحيم، أو فصل العدمية بأكثر معانيها سلبية وفوضى وعدم اكتراث، حيث إن الحل الخلاصي المتفائل غير موجود وغير واقعي ولا قريب المنال، وحيث إن المفاضلة الواقعية المطروحة هي بين السيء والأسوأ، في غياب أي “أفضل” قابل للحياة والاستمرار والثبات والقوة.
للوهلة الأولى يمكن تبرير الاستراتيجية الأمريكية؛ التي تبدو أكثر وضوحاً اليوم مما سبق، بشكل عقلي وعقلاني، حيث أنهم لا يريدون التخلص من الأسد بسرعة في غياب البديل القوي والمتماسك والمعتدل والقادر على حفظ مصالحهم بقوته، ولا يريدون انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة الهرمية كالجيش والقضاء والتعليم وغيرها.. التي تبدو متماسكة في شكلها البيروقراطي رغم انهيارها في المضمون، ولا يريدون لداعش أو جبهة النصرة أو حتى الكتائب الإسلامية القريبة منهما أن تحتل دمشق في ظل الضعف البنيوي للإئتلاف بوصفه ممثلاً سياسياً للمعارضة، والضعف العسكري لكتائب الجيش الحر (الذي ساهموا هم، أي الأمريكان، بإضعافه) وعدم وجود قيادة مركزية له قادرة على فرض كلمتها على الجميع.
كما أن الحل السياسي هو الحل الوحيد الذي يضعه الأمريكان في أفق الحرب السورية، وهو الحل الذي يعني من منظورهم التفاوض بين المهزومين على تقاسم الهزيمة والبلد المدمر، لا مشكلة لديهم من حيث المبدأ في التقسيم أو الفدرالية أو الدولة المركزية، ولا مشكلة في طول الزمن وعدد القتلى والمفقودين والنازحين والمعاناة الإنسانية الناتجة عن ذلك، فالدم المراق هو “مسؤوليتنا” و”قرارنا”، بكل ما يعنيه ذلك من سفالة وانحطاط قيمي في هذا النوع من التعامل وتحميل المسؤولية، لكن من قال أن الأخلاق والإنسانية هي مهمات أمريكية فيما يخصنا، ومن قال من جهة أخرى أنهم مسؤولون عن ابتلائنا بأقذر أنواع الديكتاتوريات في التاريخ المعاصر، فمن المعروف أن “الطغاة يجلبون الغزاة”، كل أنواع الغزاة.
الاستواء في الجحيم يعني فيما يعنيه، أن لا فرق واسع في المدى القريب بين رحيل الأسد أو بقاءه طالما أن القوى الإقليمية والدولية المؤثرة على الأرض متصارعة وحلبة الصراع سورية، وطالما أن موازين القوى على الأرض غير آيلة في المدى المنظور إلى انتصار ساحق لأي من المتقاتلين وداعميهم، فالموت والنزوح والتفكك والفقر جميعها مستمرة وتتمدد، ومن لا تهجّره قوات الأسد والميليشيات الشيعية المتحالفة معه، تهجّره داعش كما في كوباني، ومن لا تقتله ضربات الأسد وداعش المباشرة، تقتله الصفقات والحسابات الباردة لكل من أمريكا وتركيا وإيران وروسيا والسعودية وقطر بشكل غير مباشر.
قبل المجزرة الكيماوية في آب 2013، ثم صعود داعش السريع إلى واجهة المشهد بعدها، كنا نقول أن كل يوم يتم فيه الإسراع بالخلاص من الأسد هو توفير لآلاف المآسي البشرية في مجمل أنحاء سوريا، لكن اليوم بعد دخول الاستراتيجية الأمريكية مرحلة التنفيذ والإدارة المباشرة للصراع عبر التحالف الذي أنشأته، ووضع الأولوية الأمريكية لمكافحة الإرهاب بأعراضه الداعشية والقاعدية دون أسبابه الأسدية، لم يعد توفير المآسي متوقفاً على رحيل الأسد وحده كنقطة مركزية في التحليل، طالما أن القوى الذاتية للثورة ليست قادرة على إزاحته بمفردها، والإدارة الأمريكية للصراع على النحو الذي اتخذته في مكافحة الإرهاب، تحول معنى الصراع تحويلاً كاملاً دون رجعة، وتنقل المسؤولية التي تتحملها هي أولاً، والدول الاقليمية التي تدخلت بصمت وتغطية أمريكية ثانياً، نحو السوريين الذين عليهم أن يختاروا؛ بعد تعجيزهم، إزالة الإرهاب الإسلامي ثم العلماني بالتفاوض السياسي فيما بينهم تحت السقف الأمريكي والرؤية الأمريكية للمنطقة.
ما تغفله تلك الرؤية الوظيفية والأداتية غير منافاتها للحق والعدل الضروريان بالمستويات الدنيا لإقامة التعايش، هو أن مساواة القاتل بالضحية لن تنتج صلحاً سنياً/شيعياً تحت ضغط الأمر الواقع المفروض أمريكياً، ولن تنتج اعتدالاً قابلاً للحياة عند أي من الأطراف المتصارعة، بل مزيداً من الإرهاب والإرهاب المضاد لا أكثر ولا أقل.
الجانب الأخطر من كل ما سبق فيما نرى، هو أن السوريين الذين صنعوا بتضحياتهم أعظم ثورات العصر الحديث، لا يكفون عن الابتعاد عن صناعة دولتهم أو مصيرهم القادم، بل إن مصيرهم هذا، بات مرهوناً على نحو غير مسبوق، بكل ما هو في الحقيقة ليس سورياً، ولا يعنيه شعب سوريا ولا مصلحة السوريين لا من قريب ولا من بعيد.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.