عمل في صنع “العوامة”، وصار يرافق ‘‘الأستاذ’’ في جميع زياراته، ومشاويره، وأصبح يلازمه في حضور ‘‘دروس العلم’’ في مسجد “أبي النور” بدمشق، وبدا هو أيضاً، أنه قد بدأ يختار طريقه.
في مجيئه الأول لم تتح لي فرصة التعرف إليه، لكنه حينما عاد، وفي أول حديثٍ معه، سألته: لماذا انقطعت عن المجيء إلى المسجد، قبل عدة سنوات؟
فرد ببراءةٍ، وبساطةٍ:
ــ والله وقتها اشتريت “بسكليت”، وصرت العب عليها بالحارة، ونسيت الدرس..!
أحببته، وصرنا أصدقاء..
صار شاغله ارتياد المساجد، وحضور ‘‘دروس العلم’’، وسماع ‘‘الشيوخ’’، ولم يعد يخلو أي حديثٍ له من الاستشهاد ‘‘بحكمتهم’’، وترداد أقوالهم، أما أنا المصاب بالسأم منهم، والمحبط من جهلهم، فكنت أتعمد تسفيه تلك ‘‘الدروس’’ أمامه، والتكلم بالسوء على ذينك ‘‘المشايخ’’، كنت أسعى لتوعيته، وأحياناً كنت أرغب بإغاظته فقط، حتى لا يسترسل بأحاديثه أمامي..
لكن محاولاتي كانت تبوء بالفشل، فقد ظل مقتنعاً ‘‘بالعلم’’، وكان من طبيعته أنه حينما يتعلق بحديثٍ، أو بقصةٍ فإنه يظل يرددها، ويكررها ولا يترك ذكرها حتى تقع بين يديه قصة أخرى، فينسى الأولى، ويدير أسطوانة الثانية، حتى تأتي ثالثةٌ، وهكذا..
كان عندما يزورني، ونتحدث، ثم يجد فيَّ تبرماً من الحديث المكرر، يحاول إبهاجي، فيسألني: هل رويت لك ما جرى بين والداي، وجارتنا “أم رنو” ؟ وكان يسأل بجدية، فقد كان ينسى دائماً أنه حكاها لي..
وكنت أجيب في كل مرةٍ:
لا، لم تروِ لي..
يعذبني جداً سماع القصص المكررة، لكن العذاب الذي كنت أحسه من سماع قصصه، كان فيه شيءٌ من الألم العذب، يروي حكايته، فأسرح بخيالي في عوالم بعيدةٍ، وأستمتع بالألم، وأنا أفكر من أين تأتي تلك اللذة؟ !
في الصيف ذهبنا مع ‘‘الشيخ/المفتي’’، في رحلةٍ إلى البحر، وهناك كنا في الظهيرة نستلقي تحت الأشجار، كنت أعجز عن النوم، إلى أن اهتديت إلى منومٍ، فصرت أسأل رفاق الأرق، هل تعرفون قصة “أم رنو” ؟
وأنادي صاحبي، وأقول بمكرٍ: ارو لهم القصة..
يبدأ صديقي حكايته، فيتسلل خدرٌ ثقيلٌ في عروقي، إلى أن أصاب بما يشبه الإغماء، وأنام..
أصبحت زياراته لي بعد دخول الجامعة طقساً يومياً، حتى في أيام الامتحانات، أما حديثه الأثير، فقد ظل: ‘‘الشيخ’’ قال، ‘‘الشيخ’’ فعل، ‘‘الشيخ’’ قرر، أو يردد جملةً، أو مقطعاً من خطبة ‘‘الشيخ’’.
لطالما وجد في كلام ‘‘الشيخ’’، رأس الحكمة، وغاية العلم، كان يتمنى أن يصبح شيخاً، خطيباً، لذلك قرر الحصول على الشهادة الإعدادية، طلب مساعدتي، فابتدأت معه دروس اللغة الإنكليزية، لكن همته فترت بسرعةٍ، ثم توقف..
زارني في أحد الأيام، وعندما جلس، نظر إلي لثوانٍ، وكأنه يطلب إذناً لقول شيءٍ مهمٍ:
ــ نحن دولةٌ علمانيةٌ.. ولكنها علمانيةٌ مؤمنةٌ..
قال ذلك بإعجاب، وفخرٍ، وبصوت عال، محاولاً تقليد صوت ‘‘الشيخ’’، لم أعرف ما كانت توقعاته مني، لكنه بالتأكيد لم يتوقع أن أقول:
ــ مين هالحمار اللي قلك هيك !؟
فسكت..
كان أصغر إخوته، له أختُ وحيدةٌ كبرى، وثلاثة أشقاء، شقيقه الأكبر، وشقيقه الثاني معتلان منذ الولادة، والأكبر فضلاً عن مرضه العقلي، كان مشلولاً أيضاً، أما أخوه الذي يكبره مباشرةً، فكان مصاباً بالسكري، أما هو فكان دائم الإصابة بأمراضٍ غريبةٍ، في أخر مرةٍ، مثلاً، أصيب بمرض “السل”، انتفخت غدد رقبته، وغدت له رقبتان، عندما رأيته، ضحكت بشدةٍ، لم أتمالك منع نفسي..
كان أخر لقاء لنا قبل اقتحام الجيش بثلاثة شهورٍ، أتى لزيارتي في إحدى الأمسيات، وأخبرني أنه يفكر بالزواج، وأن والدته تريده ‘‘عريساً’’ كأخيه، أن موعد تجديد جواز سفره قد حان، وأنه لا يملك النقود، فأعطيته بعضها، وأخبرته أنني سأتدبر الباقي في اليوم التالي، لكنه لم يعد..
عندما أخبرني أخي أنه رآه قرب منزله ممدداً في الشارع، إلى جوار أخيه ‘‘العريس’’، بثيابهما المشققة، وبآثار تعذيبٍ وحشيٍ واضحٍ عليهما، مصابين برصاص في الرأس.. لم أستطع البكاء.
بعد المعركة، كنت مستنزفاً، محطماً من الداخل.. كان شعور الضآلة والعجز يمزق أعماقي.. عندما كان حياً، كنت أداعبه بسؤالٍ يقطع حديثه:
يامن زعلان مني؟
فيجيبني: لا.. فأفاجئه بسؤالٍ آخرٍ:
بتحبني؟
يخجل، يرتبك، فيداري جوابه بابتسامته الرقيقة: “أحب ثلاثة أشخاص، باسل، وكمال، وأنت”
يكفيني أن أكون ثالث من يحب..
لطالما اعتبرته أخي الصغير، وعاملته برفقٍ أبويٍ، واعتبرت نفسي مسؤولاً عنه، والآن عندما احتاجني لأخر مرةٍ في حياته، خذلته، وعجزت عن حمايته.. فهل أبكي عليه، أم على نفسي؟
أخبرني أخي أيضاً، أنه في تلك الظهيرة الحارقة رأى أخاه الثالث، يجلس عند رأس أخويه الممددان على الإسفلت، ويقرب من شفاههما المدماة، زجاجة ماءٍ..! ما نفع العقل، إن كان ‘‘مجنونٌ’’ أرحم بالميت منا..
في اليوم التالي لعودتي إلى المدينة، ذهبت إلى بيته، كان خالياً، هناك أخبرني أحد الجيران، أن القَتَلَة في ذلك اليوم، وبعد انسحاب المدافعين عن المدينة، صعدوا إلى المنزل، وأنزلوا الأب، وولديه، عذبوهم، ثم أعدموهم ميدانياً في الشارع، فيما تركوا الأم، والبنت، والولدان المريضان..
لم يعرف أولئك المجرمون كم كان طيباً، وهشاً، وقابلاً للكسر.. لا حاجة للرصاص، تقتله كلمةٌ، أو صفعةٌ..
كان لدي بقية أملٍ في وداعٍ أخيرٍ.. لكن الجيش أخذ الجثث معه..
بعد مدةٍ، علمت أن الأم، سافرت مع ابنتها، وولدها الثاني، إلى “غزة”، بعد أن أودعت ولدها الأكبر العاجز، لدى إحدى المؤسسات الخيرية.. وهكذا رحلوا إلى موتٍ جديد..
اليوم، وبعد سنتين على استشهاده، لا أعرف لم لا زلت أحس أن حزني معه يزداد بدل أن ينقص.. حقاً إنه أمرٌ غريبٌ..
لطالما أحببت “العوامة” عندما كنت صغيراً، أما اليوم فصرت أشتاقها، وأحبها أكثر..
في ذكرى: يامن يوسف المبيض 1981 ــ 2012