ثمة تسليم ضمني عند كثير من النشطاء والناشطات والشبان والشابات غير المتدينين في المجتمع السوري بأن عيد الأضحى المبارك لا يرقى إلى مستوى “الأعياد الراقية”؛ لا بد أن الكثيرين يشعرون بدونية هذا العيد مقابل عيد “بابا نويل” أو “عيد الحب” أو غيره من الأعياد.
إن محاولات التنصل من هذا العيد هي حالة مركبة وتتدعم بعدة نقاط:
1 – الطابع الديني لهذا العيد، مع ما نعلم من تنافر متفاوت ولا عقلاني بين فئة من الجيل الشاب، الهارب من الحرب والظلامية، والدين عموماً.
2 – حالة الشعور الواعي أو اللاواعي بالدونية تجاه الغرب وامتداده المسيحي في منطقتنا عند الكثير من أفراد الطوائف الإسلامية، والتي لها مبرراتها التاريخية والحضارية المعروفة.
3 – الميل لقيم الرفق بالحيوان والاتجاهات النباتية التي تلقى رواجاً هذه الأيام، والتي تنظر بامتعاض شديد إلى أضاحي العيد وتعتبرها، مظهراً لا إنسانياً وظالماً.
4 – التلبك والتخبط في تفسير معاني العيد سواءً عند المتدينين أو العلمانيين.
ولا بد أننا قادرون على تلمس الشعور المبطن بالزهو ونظرة التجاوز لدى المترفعين عن الاحتفال بهذا العيد، باعتبارهم قد تجاوزوا حالة “متخلفة” “لا إنسانية” و”همجية”.
قد تغرينا بشاعة الذبح الفعلية والمتخيلة لأضاحي العيد بالموافقة على هذا الطرح الإنساني، وقد تدفعنا للترفع عن هذا العيد وعن مبدأ الأضاحي، وقد تقودنا الحالة إلى تخيل امتدادات هذا “الذبح” في واقعنا الحالي والتناحر الذي عاشه السوريون على جلدهم، والذي شهده العالم على الشاشات بين المسلمين أنفسهم، ولكننا وبتسليمنا السهل لهذا الإغراء نكون قد فقدنا البوصلة.. وقلبنا المفاهيم.. وأغفلنا العقل.. العقل التاريخي على الأخص.
ثمة تاريخ طويل للبشرية المتحضرة، وبعمق هذا التاريخ يقبع البشري المفترس.. جدنا القنّاص، لم يكن هذا البشري الأول يعرف الصناعة ولا الزراعة، بل كان يعرف القنص والقتل كمصادر وحيدة للطعام.. والبقاء.. ولنسمها “مصادر الطاقة”.
ومصادر الطاقة هذه كانت قليلة ومحدودة، ولم تكن تسمح سوى لعدد قليل من البشر بالعيش على الكرة الأرضية. البحوث العلمية ترجح أن العدد الفعلي لسكان الكرة الأرضية عشية الثورة الزراعية (بين الألف العاشر والسابع قبل الميلاد) كان يتراوح بين خمسة وعشرة ملايين من النفوس. وهؤلاء الملايين كانوا عبارة عن جماعات وقطعان بشرية في صراع دائم ومستمر من أجل البقاء، وفي خضم هذا الصراع كان أكل لحوم البشر ممارسة عادية وسارية، وكان المنتصر يأكل العدو ويشرب دمه في جمجمته المفرغة ليكتسب فضائله!
كانت تلك القطعان تخوض الحروب والنزاعات على مناطق النفوذ للقطف والصيد، وكان الشكل الوحيد الممكن لاستغلال أسرى الحروب هو التهامها.. أكل لحمها! ولم يكن يندر ساعة العوز أن يأكل الأخ أخاه والأب أبنه.
وجاءت الثورة الزراعية أخيراً.. لا بد أن عوامل عديدة ثقافية واجتماعية قد مهّدت لها، وانتقل البشر من الصيد والقطف إلى الزراعة وتربية الحيوان.. إلى الرعي والمكاثرة.
من هنا يجب أن نعيد فهم قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، إنها كما يقول المفكر إلياس مرقص: “رمز ديني كبير”؛ فهي تعلن انتهاء عهد الأضاحي البشرية.. وانتهاء التهام الإنسان لأخيه الإنسان. لقد استبدل ملاك المعرفة التضحية بابن إبراهيم.. بالتضحية بكبش.. إنها الثورة الزراعية وتربية المواشي، وانطلاق عهد جديد من تاريخ البشرية: عهد الزراعة.. وعهد العبودية بنفس الوقت!
منذ تلك اللحظة أصبح ممكناً استغلال الآخر.. العدو.. الأسير.. بشكل آخر غير التهامه، وذلك عبر استغلال “قوة عمله”.
العبودية سيئة؟! نعم.. لكنها قفزة كبرى في تاريخ البشرية، منذ تلك اللحظة أصبح فائض القيمة ممكناً، والتراكم الاقتصادي ممكناً، وقفز عدد البشر إلى ستين مليوناً، ومع بسط وتعمق الثورة الزراعية وصل هذا العدد عام 1750م قبيل الثورة الصناعية إلى 750 مليون نسمة، لتحصل القفزة الكبرى بعد الثورة الصناعية، والتي وفرت كميات غير متصورة من الطاقة فيما بعد، ليقفز تعداد البشر إلى العدد الحالي.
إنه إذاً مفهوم التقدم؛ فالتقدم كما يقول “مرقص” أيضاً: “هو نمو، والنمو مفهوم رياضي بسيط أولاً، التقدم = نمو الإنتاجية، مردود الشغل البشري، (نسبة كمية الناتج على كمية الشغل)، ونمو الإنتاج هذا قبل أي شيء آخر، وهو أخيراً وبعد إغفالنا لجميع التوسطات والجوانب والمسارات “نمو” حجم السكان، أي تعداد البشر، وهذا هو الخط العريض للواقع كتاريخ”.
هل بإمكان إنسان اليوم الاستغناء عن المصدر الحيواني للطاقة؟ وبالتالي الكف عن قتل الحيوانات والتهامها.. مع المحافظة على تعداد السكان على الأرض؟ الجواب ليس بسيطاً ويحتاج إلى دراسات معمقة. لكن سواءً كان الجواب بالنفي أو بالإيجاب فإن القيمة التاريخية لهذا الإنجاز البشري الكبير “الثورة الزراعية” تبقى قيمة كبرى، ومن هنا فإن احتفاءنا بعيد الأضحى المبارك هو احتفاء بمنجز تاريخي كبير، وبغض النظر عن التفسيرات الدينية الأخرى، هو احتفاء بالكف عن قتل الإنسان لأخيه الإنسان.. احتفاء وأمل، ينبئنا واقعنا المؤسف كل يوم، أننا لا زلنا تاريخياً وحضارياً نقبع خلفه!
عيد أضحى مبارك
كل عام وأنتم بخير
كاتب سوري من الجولان المحتل