منذ اللحظات الأولى للثورة السورية، أدرك النظام جيدا ما الواجب استهدافه في هذا الحراك الشعبي، أدرك نقطة القوة ليست فقط التي تحرك الناس بل هي الأساس المتين في ازاحته، نقطة القوة التي هي استقبال الجموع الشعبية للحظة التاريخية الفاصلة والعظيمة، استقبالهم لها بالروح الواجب أن تكون في لحظات التغيير التاريخية، الروح المشبعة بأفكار الحق ومقولة الحق، بالمساواة الحقوقية، بالإيمان بأن الانسان – الفرد كائن حر، ووعي أن حريته مطلب مقدس، بالتلازم مع عدم التفريط بوحدة المجتمع وضرورة بناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة الحق والقانون.
هذا الموقف الروحي المتقدم عند نقطة تلاقي الظروف هو الوحيد والوحيد فقط القادر على تحقيق أهداف الثورة بتكنيس نظام النهب (النهب المشروط عند هذا النظام بتدمير المجتمع والقيم والانسان عبر الشكل الأقبح للدولة – الدولة الأمنية)، هذه الروح هي الوحيدة القادرة على الانتقال بالبلاد من حال الى حال، من الاستبداد الى طريق الحرية.
لم تساعد الظروف أبدا في تجذير هذه الروح وجعلها صلبة متماسكة أمام آلة العنف الرهيبة التي ووجه فيها الناس في انتفاضتهم، بالإضافة أن جذرها المعرفي بعيد زمنيا قد يرجع الى أيام أسئلة النهضة العربية (الأفغاني، الكواكبي، محمد عبده، رشيد رضا، قاسم أمين) وتتمته في المرحلة الليبرالية القصيرة وصولا الى أخلاقيات وأحلام حركة التحرر الوطنية. وانقطاع هذا الخط باستلام الطغمة البعثية العسكرية مقاليد السلطة وتدشين الخط النازل الانحطاطي عبر لفلفة أسئلة المراحل السابقة واستبدالها بكاريكاتير كذبة النموذج الستاليني، بالرغم من هذا الأثر الخفيف للزمن البعيد، فان الروح المتميزة في اللحظات الأولى من الثورة استلهمت من شعور الناس أن يتعرفوا على أنفسهم بالضدية مع النظام أو سوداوية النظام، نظام طائفي، أعلنوا وحدة المجتمع، نظام استبدادي، رفعوا راية الحرية، نظام أمني عسكري، هتفوا بالسلمية شعارا وسلوكا، نظام فاسد، نادوا بالأخلاق: الشباب الثائر في حمص تعاهدوا وظهر عهدهم على الشاشات “لن نرشي بعد الآن موظفا” على الرغم من أن الرشوة باتت تقليدا معمما في مؤسسات الدولة، ردا على استخدام النظام للشيخ رمضان البوطي باستثمار ايديولوجيا اسلامية محافظة، هتف أهل الرستن وراء نجاتي طيارة “الدين لله والوطن للجميع”.
بالمجمل كان الجذر الرئيسي للروح السورية يتحدد بالضدية مع خمسين عاما من الظلامية، تفاصيل “الظلامية” يعرفها السوريون، لذلك كانوا قادرين على مواجهتها بتفاصيل ضدية “نورانية” شكلت الروح الواجب للتغيير.
النظام الذي أدرك أن معركته الكبرى هي مع هذه الروح المرعبة والمهددة لوجوده كانت استراتيجيته وتكتيكه في كل الأيام التي تلت أن ينتكس بها محاولا جعلها مثيلته، اعادة انتاجها بما يشبه قبحه وظلاميته. وبدون مواربة أو نظرة رغبوية أو مجاملات أو رش السكر على الواقع فإن ما آلت اليه الأمور تكشف عن نجاحات لا يستهان بها للنظام (جر الناس للتسلح، تفشي الخطاب الطائفي، الأيديولوجيا السائدة باتت ايديولوجيا سلفية، انتهاكات تقوم بها فصائل تتبنى الايديولوجيا المذكورة، المحاكم الشرعية بدلا من القضاء المدني، القتل والخطف والنهب على الهوية، الاستغناء عن هوية وطنية واستبدالها بهويات دينية، الأعلام السوداء بدلا من علم الثورة، تغول العسكريين على المدنيين…الخ).
ليست هذه النجاحات للنظام فقط (فهلوة) منه، بل لأن روحاً تشكلت برد الفعل أقل تماسكا من الروح ذات الجذر المعرفي، كان يمكن لرد الفعل الأخلاقي والعظيم أن ينجح لو أن المواجهة مع الثورة كانت أقل قسوة، وبالمقابل وبالاستعانة بالتاريخ، يمكن القول أنه كان يمكن لروح لها جذر معرفي متين أن تصمد أمام كل هذه القسوة ( كل الثورات البرجوازية المنتصرة ابتداء بهولندا ومرورا بانكلترا وأمريكا حتى الثورة الفرنسية كانت الايديولوجيا السائدة هي البروتستانتية – وأغلبها الكالفينية – أي أن الاصلاح الديني منجزا – هذا جذر متين لموقف روحي انتصر وأنتج طريقا لنمو الحرية).
لكن.. هل عودة الروح ممكنة؟.. استعانة بالتاريخ هي أكثر من ممكنة، وذلك بوعينا أن لا طريق للحرية الا بها. ان من يعتقد أن طريق الحرية يمر من سيد قطب وعبد الله عزام وأيمن الظواهري.. وأساسهم ابن تيمية والطليعة الاسلامية المقاتلة واتهام الناس والأمم بالجاهلية، لهو واهم، ذلك الخط على الضد، طريق الحرية يبدأ من تجذير معرفي لروح الحق بالآية العظيمة {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}، حقي في أن أكفر، وحقك في أن تؤمن، هذه ثقافة موجودة مسبقاً.. اظهارها للفعل يحتاج لإرادتنا، وعودة الروح امكان قائم بحاجة أولاً للإرادة.