في لبنان حكومة وبرلمان ورئيس ووزارات، وألقاب تبدأ من سعادة السفير والوزير والرئيس وتنتهي بـ”سماحة السيّد”. في لبنان مصارف ومؤسسات وشركات وعمارات ومشاريع، وسعر للتبادل، ومعدلات للفائدة..
لكن لبنان ليس دولة وإنما ما تبقّى منها. فالدولة في أحد تجليّاتها هي حدود وسيادة وقرار وطني ومشروع وطني. ولبنان سيادات ومشاريع وحدود سائلة. لبنان هو صورة عن الشام والعراق وفلسطين؛ الشعوب فيها محكومة بقوة، لا شرعية لها سوى كونها قوة، وتفوق في قدراتها قدرات الشعوب. ومن هنا دأبها على مصادرة طموحات هذه الشعوب وحقوقها وأحلامها. ودأبها على قهر الشعوب وتكسير إراداتها وإخضاعها.
الإقرار بهذه الحقيقة يقودنا إلى التباس في علاقتنا بالدولة، وبوجودها في الذهنيّة وعلى الأرض. فرغم واقع انهيارها لا نزال نتصوّرها ونراهن على إمكانية أن تصحّ وتستوي. ورغم معرفتنا مثلًا أن حزب الله هو وكيل لقوة أجنبيّة، ورأس حربة في مشروعها، الذي لا علاقة له بلبنان سوى كون لبنان ضحية له ومطيّة يعتليها حتى يصل، فإن القوى السياسيّة والشعب يتعاملون مع هذا الحزب الكارثة على أنه لاعب شرعي وشريك على قدم المساواة. يعرفون أنه يقبض على روح البلد ويواصلون اللعب معه. يعرفون أنه شارك في تدمير الحاضرة السوريّة، وفي التطهير العرقي في الشام، ومع هذا فهم يتوصلون معه إلى تفاهمات واتفاقيات، ويتركون له معظم أجزاء الكعكة ويكتفون بالفتات. الجميع يعرفون أنه جعل من لبنان مزرعة للحرس الثوريّ الإيراني، ويتصرّفون على أنه ابن شرعي للبنان، ويحلّ ويربط في أمر السلم والحرب والاقتصاد والمعابر والمطار.. وما إلى ذلك من مفاصل.
لا يأتي الأمر من مزاج هذه القوى أو من تخاذل، بل يأتي من مفهوم الإخضاع الكامن في صلب القوة ـ قوة الدولة أو الكتلة المهيمنة. إخضاع المكان والزمان والناس. الدولة قائمة في أحد تعريفاتها على احتكار القوّة واستعمالها لفرض الإجراءات العقابيّة والمقاضاة، وتسمية الخارجين على القانون ومحاكمتهم. ولأن حزب الله هو الدولة الفعلية في “الدولة الاسمية”، ولأنه السيادة الفعلية داخل “السيادة الشكلية” لدولة لبنان، فهو الذي يقوم بعملية الإخضاع، لتطال الشركاء كافة، والناس كافة.. والدولة أيضاً! واستعمالها استعمالاً غائيًّا، وإفراغها من مضمونها الجامع، وإكسابها المعنى الحصريّ الذي يحوّل النظام الطائفيّ في حقبة ما قبل الحرب الأهلية إلى نموذج مثاليّ قياساً بما هو حاصل اليوم. لم تكن الدولة (لبنان) يومها قادرة على هذا الكم من قهر المواطنين والناس، ولا على التنكيل بهم. بل بدت واعدة في اقتصادها وازدهارها وبيروتها، وإن لم تكن مستقرّة.
إن دخول القوات السوريّة في العام 1976 إلى بيروت -ضمن قرار عربيّ- كان بداية الخراب الذي لا يزال يتدحرج ككرة الثلج. يومها فقد لبنان ما كان له من زمام أمور كمجتمع تشظّى وفق خارطة القوى الإقليمية وتوازناتها. كل فصيل في الداخل انضوى تحت مركز قوة في الخارج، فيما حاول الوجود السوريّ في لبنان فرض هيمنته بالقمع والإخضاع كقوة احتلال، ونظام خاوة وفساد، ومخابرات تدخل في خياشيم الناس بمن فيهم النُخب والقيادات. وعندما خرج السوريّ أوكلت المهمّة للبنانيين بالاسم.. أرادوا الدولة بالاسم.
لا رهان على منظومة دوليّة متصارعة حدّ الحروب بالوكالة. هذا مع ترجيحي أن هذه المنظومة لن تستقرّ في المدى المنظور، بل ستزيد صراعاتها. والواضح أن هذه المنظومة غير مشغولة بلبنان وشعبه إلّا بقدر ما تتحقّق فيه مصالحها. وتستطيع هذه المنظومة العيش مع الوضع القائم سنوات طويلة أخرى. من هنا أهمّية أن يأخذ اللبنانيون الأمور إلى أيديهم لاستعادة الدولة والوطن وبنائهما من جديد. المقاومة المدنية هو المخرج. مقاومة مدنية لا تكتفي بالتظاهر. هناك حاجة إلى ممانعة بمعنى العصيان المدني. لا أعرف لماذا يجلس جنبلاط وجعجع والمستقبل وغيرهم من قوى سياسيّة في الحكومة. هناك مرحلة توجب قول “لا” مدوّية للمنظومة. وهي مرحلة تحتاج إلى تعبئة صحيحة، تتجاوز العصبيّات الطائفيّة والنظام الطائفيّ الذي كرّسه حزب الله بقوة الحرس الثوريّ الإيراني والملالي ونفطهم.
يبدو هذا الكلام تنظيرًا في ضوء حقيقة أن المقتدرين في لبنان خرجوا منها وبقي فيها غير القادرين على الفرار من أنشوطة حزب الله. لكني أحاول أن أجيب على سؤال من أين نبدأ؟ هذا على فرض أن هناك من يُريد أن يبدأ لبنانه من جديد. هذا في ظلّ منظومة دولية تقبل بكيانات هي أقلّ من دول يُديرها وكلاء تتواصل معهم لقضاء حاجاتها.
مثقّف نقديّ يأتي من مجالات الحقوق والعلوم السياسيّة والاستشراف. شاعر وناقد ثقافي. يدرّس العلوم السياسية والأدب. له إسهامات في مقاربة موضوعات العولمة والهويّة واللغة والأخلاق وما بعد الحداثة.