فاجأت الهبّة او الانتفاضة الفلسطينية الجميع، بمن فيهم الذين كانوا يدعون إليها، ويتحمسون لها، أو الذين كانوا يخشونها أو يستبعدونها، فهذا هو حال الهبات أو الانتفاضات الشعبية، تأتي فجأة كحالة عفوية وانفجارية، وبدون أن تأخذ إذنًا من أحد.
في هذه الهبة، أو الانتفاضة، يثبت الفلسطينيون مجددا أنهم شعب حي، وشجاع، ويستعصي على الإخضاع، رغم إمكانياته الضعيفة، ورغم الظروف الصعبة المحيطة به، كما يثبت بأن الأساليب القمعية الإسرائيلية، لم تفت عضده، ولم توهن عزيمته.
هكذا، نحن اليوم إزاء حالة نهوض وطني فلسطيني، من أهم سماتها، أولاً، أنها حالة نهوض شعبية وعفوية، أي من خارج الأجندة الفصائلية، بل وربما تتجاوزها. وثانياً، أنها ذات طابع شمولي، بحيث أنها شملت معظم مدن الضفة الغربية؛ فعدا القدس، ثمة أيضاً، الخليل ورام الله ونابلس وبيت لحم وقلقيلية وجنين وطوباس وأريحا. وثالثا، أنها سريعة وساخنة ومبادرة بطريقة عملها ودينامياتها.
بيد أن مشكلة الفلسطينيين، مع تضحياتهم وبطولاتهم، أن تصاريف القدر تعاندهم، إذ غالباً ما تأتي انتفاضاتهم، أو هبّاتهم، في ظروف صعبة، وغير مواتية، على الصعيدين العربي والدولي. هذا حصل، مثلاً، إبان الانتفاضة الأولى (1987ـ1993)، إذ شهدت هذه الفترة حرب الخليج الثانية، مع احتلال نظام صدام للكويت، الأمر الذي نجم عنه تفكّك النظام العربي، كما شهدت انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، مع هيمنة الولايات المتحدة كقطب أوحد على النظام الدولي، فإزاء هذين الحدثين اعتبرت منظمة التحرير ضمن معسكر الخاسرين، وهذا ما تم تثبيته في شروط انعقاد مؤتمر مدريد للتسوية، وتالياً في مضامين اتفاق أوسلو (1993).
أيضاً، الانتفاضة الثانية (2000ـ 2004) لم يكن حظّها أفضل من الأولى، إذ حصل خلالها الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن (ايلول 2001)، ما أدى إلى اندلاع الحرب الدولية على الإرهاب، وتاليا، تغير كل المعادلات الدولية والإقليمية، لاسيما بعد الغزو الامريكي لأفغانستان (2002)، ثم العراق (2003). ومعلوم أنه تبعا لهذه المناخات، ومع طغيان أشكال العمل المسلح على الانتفاضة، ولاسيما وفق نمط العمليات التفجيرية، استطاعت إسرائيل أن تروج لوصم الانتفاضة بالإرهاب، وبالتالي عزل ومحاصرة قيادتها، أمام نظر العالم. وهكذا تم فرض الحصار على الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مقره في رام الله من أواخر 2011 إلى أواخر 2004، أي إلى لحظة رحيله للعلاج في فرنسا حيث توفي.
بديهي ان هذه أقدار الفلسطينيين، التي لا يمكن لهم التدخّل في مساراتها، مع ذلك فقد كان يمكن لهم التقرير في مسألتين، أولاهما، إدراك أنه لا يوجد انتفاضة إلى الأبد، طالما أنه لا يمكن هزيمة اسرائيل، في هذه الظروف، ومن معركة واحدة أو بالضربة القاضية. بمعنى أنه كان الأجدر بالفلسطينيين التصرف في الحالين باعتبار أن لكل ظاهرة، ومنها الانتفاضة، بداية ونهاية، وأن الأفضل تنظيم التراجع، في حال تغيرت الظروف، أو في حال استنفذت الطاقة الكفاحية عند الشعب المعني، بدلا من ترك الأمور للظروف أو لأثمان مجانية.
وثانيتهما، تحصين الانتفاضة من الاستدراج إلى المربع الذي يتيح لإسرائيل استخدام أقصى ما في طاقتها من عنف، ويسهل لها استخدام أعتى ما في ترسانتها الحربية ضدهم، باعتبار أن ذلك لا يؤدي إلى كسر الجماعات العسكرية فقط، وإنما يؤدي إلى كسر المجتمع الفلسطيني، أيضاً. وطبعا فإن هذا لم يحصل في الانتفاضة الأولى، لكنه حصل في الانتفاضة الثانية للأسف، تحت غطاء موجة العمليات التفجيرية التي اندلعت آنذاك.
الآن، تأتي الهبة الشعبية الفلسطينية في ظروف غير مواتية، أيضا، لا عربيا ولا دوليا، فعلى الصعيد الدولي لا توجد الظروف التي يمكن ان تسمح للفلسطينيين باستثمار تضحياتهم وبطولاتهم في انجازات سياسية متحققة، فهذا لن يسمح به لا اوباما ولا بوتين، ولا أي أحد آخر، في ظروف خراب المشرق العربي، الدولتي والمجتمعي، من لبنان إلى اليمن مرورا بالعراق وسوريا، مع هذا الانقسام الطائفي ـ المذهبي الناجم عن مداخلات ايران في المنطقة، وانقسام الوضع العربي، والارتداد عن معاني ثورات “الربيع العربي”، يبدو أن الفلسطينيين سيفتقدون أي إسناد عربي، ولو على المستوى السياسي أو النظري.
على ذلك فإن الفلسطينيين، وبخصوص الهبة الشعبية الحالية، معنيون بتحصينها إزاء ثلاثة تحولات، الأول، انزياحها نحو العسكرة، لأن ذلك سيقوض تحولها إلى انتفاضة شعبية. والثاني، عدم الإنجرار إلى إطلاق صواريخ من غزة، لأن هذا سيضعهم إزاء حرب إسرائيلية مدمرة. والثالث: الحؤول دون طغيان الفصائل، لأن الأجدى أن تستثمر هذه في تنظيم الانتفاضة لا في احتكار قيادتها، حفاظا على طابعها الشعبي، ومنعا للتنافسات الفصائلية، ومن أجل تمكين الشباب من التعبير عن ذاتهم، وتطوير حراكاتهم. ففي عمر هؤلاء الشباب ظهرت القيادات الحالية للحركة الوطنية الفلسطينية في منتصف الستينيات أي قبل 50 عاما.
وباختصار فإن الفلسطينيين، في هذه الظروف الصعبة والمعقدة، معنيون بانتهاج أشكال مقاومة تتمتع بميزتين: أولاهما تحييد الآلة العسكرية الإسرائيلية أو كبح إمكان استخدامها بأقصى قدر من العنف ضدهم، ما أمكن ذلك. وثانيتهما، أن تمكن هذه المقاومة من تقوية المجتمع الفلسطيني، وضمنه تقوية كياناته السياسية، لا إضعافها. أي ان الفلسطينيين بحاجة إلى مقاومة توجع إسرائيل أكثر مما توجعهم، وتعزز الانشقاقات وتنمي التناقضات في مجتمع عدوهم، بدل أن تعزز تماسكه وتقوي وحدته.
تحية لروح الحرية عند شابات وشباب فلسطين..