Site icon مجلة طلعنا عالحرية

عن معرض رؤيا عيسى وما لم يظهر في “الكادر”

يُفترض فيما يفترضُ، عندما نقرأ خبر افتتاح معرضٍ للوحاتِ فنّانٍ ما، أن تهجم على أخيلتِنا صورة لحفلٍ مليءٍ بالأحبّة والأصدقاء ومتذوّقي الفن، ويخطر فيما يخطر على البالِ شكلُ المكانِ في حيٍّ دمشقيٍّ عريقٍ، ونسمع صوت الضحكاتِ تملأ المكان فرحًا بهذا المعرض وصاحبه، وأن اللغة العربيّة بلهجاتها تحتلّ المكان، كما كان يفترض أيضًا أن أكتب عن المعرض بطريقة صحافية لأحاور رؤيا أو أسرد تقريرًا عن المعرض.. إلّا أن ذلك لم يحدث ..

في قلعة ألمانيّةٍ تعودُ لعصر النهضة، في مدينة عاشت الحرب العالمية ودُمّرت بنسبة 90%، كانت صورُ الخرابِ تأخذُ شكلًا آخر، امرأةٌ حبلى يحاصرُها الموتُ مع جنينها ويلفُّ عليهما أفعاهُ، وثانية تعانق الفزّاعة، وتلكَ التي تستأصل قلبها ليخرج شجرةً متجذّرةً خضراءَ، تحمل فيما تحملُ صورَ الزنزانة المنفردة، ملابسُ أطفالٍ بلا أطفالها، سيّدة تنظر إلى المرآةِ لترى نفسها بلا شعر رأس، وأخرى تمشّط شعرَ الوحدةِ والوحشة!، وثمة عينٌ تحيط بها الطيورُ ويقف بومٌ كالرقم 12 بين أرقام الساعة المستديرة متسيّدًا بالقوّة.

 

نساءُ رؤيا، لسنَ إناثًا بالمعنى البيولوجي للكلمة، أي أنّهنَّ لا يُبدينَ أنوثتهنَّ، يُبدينَ هواجسهنّ، أوجاعهنّ، أحلامهنَّ، وشغفهنَّ في الحياة، يحاصرهنَّ الموتُ لكنهنّ يلفظنه، حتّى أنها بدأتْ ترسم أولى لوحاتها في هذا السياق دون أن تحدّد مسبقًا النوع الاجتماعي للشخصيّة المرسومةِ، نساءٌ بدون شعر، وهو تعبيرٌ سيكولوجيّ عن الفقد والخسران والحسرة، كمن يحلم بأنه مشى حافيًا أو تساقطت أضراسه، هذا يعني أنه محبط ولا يستطيع تحقيق أهدافه ويشعر بالحسرة، أو ربّما سقط إثر مرض أصابهنّ، أو أنهنّ قَصَصْنَه ثورةً، لا نهودَ لتفتنَ، ولا أثداء لترضع أطفالها، نساءٌ بهامش ألمٍ كبير، ومتنِ خوف ووحشة، نساءٌ يعشنَ الحرب قبل الحرب، ويبحثنَ عن الحياةِ قبل انتشار الموت مؤخّرًا، نساءٌ.. ينتظرنَ الفجرَ منذ خمس سنوات.

 

مديرُ القلعة (بِتْ) رجلٌ سبعينيّ بنصف رئة، ضخمٌ بوجه أبيض، ولحيةٍ طويلة بيضاء، يقول لي: «كل سكّان مدينة (ديورن) يشعرون بشعوركم، فهذه المدينة اختبرت الحربَ ولم يبق منها شيء، كانت عمّتي تعمل في أحد المتاجر بائعة للساندويش، عندما سمعتْ صوت القنابل البريطانيّة والأمريكية، هربت على درّاجتها الهوائيّة، ولكنّ القنابل ظلّت تلاحقها، فرمت درّاجتها، واختبأتْ في حفرة، من قوّة القنابل.. كانت الأرض تلفظها وتضربها للأعلى، بعد قليل، رفعت رأسها لترى (ديورن) .. إلا أن (ديورن) لم تعد موجودة» وبكى!.

 

أوصاني الشاعر السوريّ أمجد عطري قبل أن أسافر إلى ألمانيا: «أوصيكَ لا تنسَ الطريقَ وأنت تعبرُ نحو عالمهم، وحدِّثهم عن الشام العتيقة والصديقة والحقيقة والرؤى \ واسردْ لهم عمّا إليهم أوصلَكْ \ عن من مضى .. عن من أتى .. عن من هلَكْ \ عمّا حلُمتَ .. وما رأيتَ وما بحزنِكَ أنزلَكْ \ أسرُدْ هناك القولُ لكْ».. وتنفّذ الروائية السورية روزا ياسين حسن الوصيّةَ كاملة، تقدّم للمعرض كما لو أنّه رسالتها الأخيرة: «لنقل إن سرد ما عشناه نوع من فضح المسكوت عنه، نبش المستور، لكنه نبش وفضح إجباريّ، كضحيّة مجبرة على سرد تفاصيل اغتصابها مرّة بعد مرّة أمام المحقّقين، لئلّا يبقى جلّادها حرًّا طليقًا، كأنّه لم يرتكب شيئًا، أو تبقى الفظائع التي عاشتها مجهولة ومنسيّة».

التشكيلية رؤيا عيسى التي لم تستطع البقاء هناك حيثُ الموتُ والتغييب والاعتقال، أخذت وجعها وحوّلته إلى فنٍّ يقول ما لم يقله الصوتُ الواقف في الصدر مأسورًا، الحكاية ليست في تقنيّة الألوان أو ضربة الريشة فقط، هي أعمق بحيث ترى المشهد كاملًا حين لا تراهُ إلا رسمًا، برمزيّة عالية، يأخذ العمل منحى تعبيريًّا من خلال الألوان المتكاملة التي تعبّر عن القلق والانفعال كما الألوان الصارخة، إنه عمل ذاتيّ جدًا ولا ينتمي لمدرسة بعينها، هويّة واضحة في تشكيل الملامح، تكثيف للأمل والألم في نساء تتلبّسهنَّ رؤيا، لتقول في لوحاتها إن سوريا ليست مسرحَ الموت ذاك.

وتسردُ روزا، تسردُ الوجعَ منذ آخر لقاء، لتقول للحاضرين كيف يعيش السوريون: «كان آخر لقاء لنا، ثم افترقنا كل في بلد. في صبح ذاك اليوم الأخير كان قد غادرنا أسامة، صديقنا الدكتور الذي طالما عالج النازحين من مناطق القتال مجانًا، والذي طالما وهب الأدوية مجانًا كذلك. مات في معتقل النظام تحت التعذيب! قبل يوم من ذاك اليوم الأخير، قُتل صديقنا بسام بقذيفة حوّلته أشلاء متناثرة، وبقي أطفاله الثلاثة تحت سطوة الذهول مصدومين، حتى اللحظة، بجثّة أبٍ بدون رأس! قبلهم تهدّم بيت وائل بصاروخ عنيد أصرّ ألا يبقي في البيت حجرًا على حجر، ومعه ذهب شقاء سنين وذاكرة تقوّضت مع الجدران. أما صديقتنا سميرة فقد خطفها إسلاميون متطرفون في غوطة دمشق، لم يشفع لها أنها كانت معارضة من رحم الثورة، فقد كانت ببساطة لا تشبههم، بشعرها الطليق وعقلها الطليق ولسانها الطليق. كان شعرها وعقلها ولسانها كافين لتختفي في غياهب عنفهم.. وكنّا وسط كل ذلك، فهربنا».

 

يمكنني القول إنّه لم يكن معرضًا تشكيليًا وحسب، أمٌّ تحملُ أشلاء لحمها لتقول للأحياء: لم نحبّ الموت يومًا، وصوتٌ مخنوق باللغتين العربية والألمانية يحكي ما كتبتهُ روزا في موازاة الحدث، (هارموني) يحمل النصَّ الأدبي صوتًا حزينًا، ويحمل الصّورة (سوبرانو) للأمل، والحياة والموت: صراعٌ على هويّة المايسترو.. تعودُ روزا لتخاطبهم: «كنا نقتنع بأن سوريا لم تكن وطنًا لنا، كانت وطنًا لأزلام النظام، كانت وطنًا لعصابات الفساد، كانت وطنًا للرشاوى والسرقات، كانت وطنًا للذئاب. وطن للفقر والجوع والتهميش، وطن للخوف. لكنها كانت وطننا رغم ذلك، ذاك الحيّز الذي لطالما وهبنا الحكايات. هل يستطيع أحدكم أن يحيا دون حكايات؟! حين تجرّبون العيش بدون حكايات، بعيدًا عن الذاكرة، ستعرفون ماذا يعني أن يخسر الإنسان وطنًا!!».

 

دموع متعدّدة الجنسيات –منذ متى كان للدمع جنسيّة!- وبوحٌ كذلك، وغصّة لم تعرف هذا البردَ مسبقًا -الغصّة في البرد أكثر إيلامًا- وذكرياتٌ تقشّر الجرحَ كسرةً كسرة، رغم قلّة عدد السوريين مقارنة بالألمان، إلا أن رؤيا استطاعت حمل وطنها إلى هنا، كذلك روزا، كذلك كل الذين اشتعلت ذكرياتهم .. لذلك .. لم يكن ممكن في هذا الظرف الاستثنائي، إلا أن نكتب بطريقة استثنائية.

 

*شاعر وكاتب صحافي فلسطيني سوري.

Exit mobile version