لم تمتلك دول الغرب، ومن ورائها العالم، يوماً سياسةً حقيقيةً لمحاربة التطرف واستئصاله. واقتصر دورها منذ زمنٍ بعيدٍ على تدخلاتٍ لم تعد عليها وعلى العالم سوى بالنكبات والكوارث، محققة فشلاً تلو فشل، وممعنة في إخفاقاتها التي لم يعد بالإمكان حصرها اليوم. وحين تقتصر أجندات محاربة التطرف على حروب لا تثمر إلا مزيداً من الحقد والكراهية للغرب “المتغطرس” و”للغزاة” الذي لم يأتوا إلا بالموت والخراب، لا يمكن الحديث عن جدوى لهذه الأعمال، لأن لا جدوى لها في المقام الأول.
خلفت حروب الغرب على الإرهاب في العراق وقبلها في أفغانستان واليمين واليوم في سوريا والعراق ملايين اللاجئين، وعادت بمجتمعاتٍ كاملةٍ إلى عصور الظلام من حيث التعليم والخدمات الصحية وبنية المجتمع وعلاقاته مع السلطة فيه، وألهبت لدى أعدادٍ لا تنتهي من الشباب حسّاً عالياً بالظلم، ونمّت لديهم كرهاً عميقاً لهذه القوى التي تستبيح “أوطانهم ودينهم”، وتقتل بني جلدتهم بحجّة مساعدتهم على التخلص من الإرهاب والتطرف الذي أتى به.
ولاعتماد الغرب على أنظمة دكتاتورية لا تقلّ ظلامية عن التطرف الذي يدّعي محاربته الدور الأكبر في دفع المزيد من هؤلاء الشباب إلى أحضان التطرف. وحين نعرف أن جزءاً كبيراً منهم لم يعرف التدين بمعناه التقليدي، كالمواظبة على الصلاة والصيام والامتناع عن شرب الخمر، ندرك عمق المشكلة وخطأ تشخيصها، وأن هذه الحروب أعطت لمن لا يجدون لأنفسهم مكانا في مجتمعاتهم، وخاصة الشباب المسلم الذي يعيش في الغرب بحكم مولده، المبرر الكافي للارتماء في أحضان الإرهاب. وحين نعرف أن الكثير من الحكومات التي تحارب هذا الإرهاب غذّته أو استفادت منه أو قدمت له التسهيلات لتحقيق أهداف سياسة في مرحلة ما، ندرك أن المشكلة أعقد بكثير مما تبدو عليه.
تأرجحت أسباب الحروب على الإرهاب بين دوافع الانتقام والترهيب، واستعراض العضلات، والأطماع الاقتصادية.. ولم تخجل فرنسا مؤخراً من التلميح لإمكانية التحالف مع طاغية قتل ربع مليون من شعبه وشرّد أكثر من ثلثيه.
تكمن المشكلة في أمور عديدة لا يستطيع هذا المقال حصرها أو شرحها، وسيكتفي بذكر بعضها.
إن محاربة التطرف الذي يعصف بشباب المسلمين السنة، لا يمكن أن يكون على يد من يرون فيه عدوهم الأول كإيران، أو حكومة المالكي أو نظام الأسد، ولا يمكن أن يكون بالتأكيد على يد الدول التي تدعم هذه الأنظمة مما يتركنا مع خيار وحيد؛ وهو أن تتم محاربته على يد ضحاياه. وهذا يتطلب استراتيجيات كاملة لبلورة آليات هذا الدعم. ونعرف جميعا أن العودة القوية لمتطرفي القاعدة في هيئة الدولة الإسلامية في العراق والشام هو نتيجة لهذه السياسات.
والأمر الثاني أن محاربة الإرهاب تقتضي النظر عميقا في جذوره، ووضع الحلول للمشاكل والمعضلات العميقة التي تكمن وراءه. إن الإقرار بأن قسماً كبيراً ممن يقعون فريسة التطرف ويسقطون في فخّ الإرهاب هم في الحقيقة ضحايا لتعقيدات المسألة في مجتمعاتهم وعلى الساحة الدولية سواء، والتي ذكرنا جزءاً منها في مقدمة المقال. ولا يعني هذا مسامحتهم تماماً على الجرائم التي يقترفونها، لكنه يعني أنهم جزءٌ من الحلّ بقدر ماهم جزء من المشكلة.
لا يرى الغرب ولا الأنظمة القمعية التي يدعمها ويتحالف معها لمحاربة الإرهاب والتطرف ولا المنظومة الدولية التي يوظفها الكبار في ألعاب المصالح تلك في هؤلاء سوى قتلة ومجرمين، ولايرى فيهم أو في بعضهم الشريك الذي يمكن العمل معه لمساعدته على تجاوز محنته وتوظيفه للوصول إلى السواد الباقي من هؤلاء. وفي حين تكمن دوافع سياسية شبه بحتة وراء الحروب على الإرهاب، لا يبدو أن الساسة يوظفون أياً من أدوات السياسة لمعالجة هذه المسألة على نحو يطال جذورها؛ فطبيعة الأنظمة السياسة الغربية تقضي بأن من في السلطة اليوم سيغادر غداً، وهم -والحالة هذه- لا يكترثون كثيراً للتفكير بحلول استراتيجية لمشاكل العالم، وليس الإرهاب والتطرف وحسب، بل ينسحب الأمر على أمورٍ أخرى كالتغيير المناخي والفقر والصحة والتعليم!
غالباً ما تُجترح الحلول التي تتصدى للتطرف والإرهاب الذي يولده في مجلس الأمن الدولي، وهو مؤسسة تسيطر على قرارها خمس دول يضلع معظمها في انتهاكات متكررة للقانون الدولي وسيادة الدول وحقوق الإنسان الدولية. ولعل اسم هذه المؤسسة يشي بطبيعة تظرتها إلى مشاكل العالم بوصفها أمنية بالدرجة الأولى.. وتتمتع بحكم ميثاق الأمم المتحدة الذي تنطوي تحته بصلاحيات غير محدودة باستخدام القوة العسكرية في حلّ مشاكل العالم وفي الوقت الذي لا تتمتع فيه السطات القضائية الدولية بأي صلاحيات وتحتاج لتفويض من مجلس الأمن للقيام بعملها! وهو أمر يناقض أسس العدالة.
لم يبذل الغرب والعالم أي جهد لفهم التطرف والإرهاب الذي ينتج عنه كمشكلة اجتماعية، بل لطالما نظر إليه على أنه مشكلة أمنية وحسب. ولم نر من ينادي في محافل القرار بسبر جذوره في سبيل الوصول إلى حل جذري له. ليست المسألة على هذا النحو من البساطة، وهي تحمل تعقيدات كثيرة تجعل من المهمة أمراً صعباً للغاية. ولأن المشكلة عابرة للمجتمعات، ولأن أسبابها كثيرة وعميقة، فإن حلًها بتطلب حشد موارد ضخمة، وتوفر إجماع شامل حولها.
لن يخمد التطرف ويبدأ بالانحسار والعالم ينظر له على أنه تهديد أمني نابع من غلو البعض وحسب، ومتجاهلاً الأسباب الموضوعية الأخرى التي تؤدي إلى توالده وانتشاره واتساع ساحته. ولن تحلّ مشاكل العالم المتفاقمة دون أن يكون هناك نظام للعدالة الدولية لا يخضع لحسابات السياسة والمصالح والاعتبارات الأمنية، ومنظومة دولية تنظر إلى مشاكل العالم بوصفها مشاكل ذات جذور تجب معالجتها في عمقها، بوصفها أموراً قابلة للحل واستبعاد الوصفات التي تدعي استئصالها دون أن تتمكن حتى من خدش سطوحها.