د. نذير صالح
بات معروفاً أنّ من يتبنّى فكرةَ الخلافة الإسلامية حالياً هو تنظيم “داعش” حيث أعلن البغدادي في حزيران 2014 تأسيس ما أسماها بدولة الخلافة.
بدايةً، وبعيداً عن نظريّات المؤامرة، أودُّ أن أوجزعدة نقاط من وجهة نظري حول مفهوم الخلافة الإسلامية:
- الخلافة تعبير استخدمه المؤرّخون المسلمون لتوصيف الوقائع التي عقبت وفاة الرسول، كالخلافة الراشدة والأمويّة والعباسيّة والعثمانيّة. وهي ليست ركناً من الإسلام أو سورة من القرآن. و (منهاجُ النبوّة) هو المنهج الأخلاقي للنبي وأفكاره العمليّة: العدل والعلم.
- الخلافة لا تقتصر في دلالتها على فكرة إنشاء دولة بمفهومها الإداري والتنظيمي للمسلمين. فالأصل التاريخي لهذا المفهوم يثبت أنّ الخلافة هي مرحلة زمنية تمتّع معظم من شهدها بالعدل والحرية والأمان (تحديداً بعهد الخلافة الراشدة). ففي ظلّها عاش المسلم وغير المسلم، وقلّ أن يُظلم أحد، أو أن يحصل احتراب. هي إذاً (الثورة المجتمعيّة ضدّ الفكر الجاهلي آنذاك) تم فيها إرساء مفاهيم التعايش والمساواة وإبعاد مفاهيم الطبقيّة والعنف من مخيلة الناس على اختلاف خلفياتهم القبليّة. الخلافة وقتها لم تكن نظامَ حكم إنّما صحوة فكريّة،ً ومرحلة اجتماعيّة استوعبت كل الناس ووفّرت لهم الاستقرار والجوالنفسي ليتخلّصوا من عبءِ ما وجدوا عليه آباءهم. أي أنّ الخِلافة هي التطبيق الاجتماعي لـ (فكرة التوحيد) التي أتمّتها رسالة محمد (ص).
- الخلافة ليست (وطناً) حتميّاً يجب أن يحلم بتأسيسه المسلمون، ولا تُحصر الخلافة ببقعة جغرافية تدعى (أرض الخلافة). فالإسلام اليوم متاح للعالم وتستطيع أيّ دولة أن تستفيد من أفكار الإسلام بسهولة في بناء نفسها دون أن توصف الدولة أنّها إسلاميّة، وهذا ما فعلته حقيقة ًمعظم شعوب العالم، فالنهضة الأوروبية لم تصنعها الكنيسة ولكن معظم روّادها مسيحيون. أمّا الشعوب المسلمة تخلّواعن فكرهم التطبيقي واختاروا البقاء بالماضي وأدمنوا رثاء عمر وعلي. فالمقصد أنّ تأسيس الدول ليس جزءاً من (مقاصد الإسلام)، ومن السذاجة اختزال الإسلام بالجغرافيا.
- الخلافة ليست مشروعاً سياسياً يتمّ الإعلان عنه من قبل هذا وذاك، فهي منظومة متكاملة من القيم يحملها الإنسان ويعلّمها لأخيه الإنسان، بطريقٍ يبدأ بالابتسامة بوجهه وينتهي بسلامة الناس من لسانه ويده.
في الواقع، لقد حاورتُ الكثير من المدافعين عن فكرة الخلافة الإسلامية وفق النموذج الداعشي، وهذه الأسئلة وجهتها لهم في إحدى الحوارات:
*ما الهدف من الخلافة الإسلامية؟
الإجابة: “إنشاء دولة قوية تطبّق الشريعة وتحكم بما أنزل الله، وتدافع عن المسلمين وتستردّ أراضيهم وتفتح بلاد الكفر”.
*ما الهدف من الإسلام؟ وبرأيكم لماذا لم يرسل الله الجيوش والسلاطين لتنظيم تطبيق الشريعة بدلاً من الأنبياء العُزّل؟
الإجابة: “هدفُ الإسلام عبادة الله وحده لا شريك له. وتطبيق الشريعة يحتاج للسيف، وما محمد (ص) إلا رسول بُعث بالسيف رحمةً للعالمين ولم يكن أعزلاً”!
*هل وَضَع الإسلام إنشاء دول (قوية) ناطقة باسمه كشرط لنجاح هدفه المعلن من قبلكم؟
إذا كانت الإجابة بنعم، فأنتم تؤكّدون مزاعم أعداء الإسلام؛ التي تقول لولا القوّة لما عرف الإسلامَ سوى محمّد وأصحابه.
وإذا كانت الإجابة بلا، تسقط الضرورة الشرعيّة عن إنشاء الخلافة طبقاً لمفهومكم.
الإجابة: “الخلافة ليست لنشر الإسلام، ولا ليحقق الإسلام هدفه، فقد تكفّل الله بنصرة الدين، ولكنّ الهدف حماية المسلمين.
* كيف ستحمون المسلمين، فالمسلمون اليوم منتشرون في كل العالم؟
هل ستدعونهم للهجرة إلى دولتكم؟ أم ستحتلّون الدول التي يوجد فيها مسلمون؟ ولماذا تفترضون أنّ كل مسلم في العالم مضطهد وبحاجة لحماية؟ هل المسلم البريطاني مثلاً يحتاج لقاذف الآر بي جي كي يشعر بالأمان من اليهود والنصارى؟ ولماذا تعتبرون أصلاً أنّ الصراع بين معتنقي الأديان (يجب) أن يكون صراعاً مسلّحاً، وترفضون أنّ المسلم يستطيع التعايش مع غير المسلم؟ وقد قال القرآن: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) [آل عمران: 75] واضح من الآية جوُّ العيش في مجتمع واحد مع أهل الكتاب، إذ ليس من المعقول أن أهاجر إلى بلاد الكفر حسب وصفكم لأضع قنطاراً من الذهب كأمانة عند أحد الكفار!
وأيضاً ..لماذا تتجاهلون حقيقةَ أنّ معظم المسلمين في العالم يشعرون بالراحة والرضى في أوطانهم لولا أفعالكم الظلامية التي تدّعون أنها لحمايتهم، وبذات الوقت يقولون إنّها أفعال تسيء لهم وتشوّه دينهم؟
وأخيراً، إذا كانت دولتكم ليست لنشر الإسلام، فماذا عن أن “دولتكم تتمدد” هل تسعون للسيطرة على العالم؟
الإجابة: “سنحمي المسلمين في العالم من خلال الجهاد، وإذاقة أعداء الله شتى أشكال العذاب. ولن نقبل العيش بذلّ مع أعدائنا. وهجرة المسلمين إلى دولتنا واجب شرعي، سنجاهد من أجل أن تتمدّد دولتنا لإعلاء كلمة الله ولو كره الكافرون”.
انتهى الحوار.
باعتقادي، الخطّة الموضوعة ليتسنّى لداعش بناء خلافتها ليست مبتكرة؛ فهي خطّة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر حيث ابتكرتها الصهيونية لإنشاء “دولة إسرائيل”.
ففي تاريخ 14 أيار 2015 دعى البغدادي بتسجيل صوتي المسلمينَ في العالم للهجرة إلى “أرض الخلافة” للعيش بكرامة وليتخلّصوا من الاضطهاد الواقع عليهم من الصليبيين واليهود. هذا يذكرنا بدعوة الصهيونية يهودَ العالم للهجرة إلى “أرض الميعاد” أو”إيريتس يسرائيل” لنفس الأسباب التي ذكرها البغدادي للمسلمين.
حيث رفضت الصهيونية اندماج اليهود مع المجتمعات الأخرى بهدف التحرّر من معاداة السامية، والتخلص من الاضطهاد الذي وقع على اليهود.
ولا يحبّذ الدواعش أيضاً أن يعيش معهم غيرُ المسلمين، فكلُّهم أعداء الله بزعمهم.
إذاً، فهجرة معتنقي الدين الواحد إلى بقعة جغرافية لإنشاء دولة لهم فكرة صهيونية!
ويؤمن بنو صهيون بـ (دولة إسرائيل الكبرى) التي تمتد من الفرات إلى النيل حسب التوراة [سفر التكوين 15:18-21].
تماماً كأوهام بني داعش بالتمدُّد من المشرق إلى المغرب! فتلك حدود خلافة أجدادهم!
وإن أساليب التهجير والحرق والقتل والغدر التي تمارسها داعش تمّ تدريسها في مدارس الإرهاب الصهيوني منذ عقود.
لذا فعلى الشباب المسلم أن يتفكّر أكثر بـ (مقاصد الإسلام)، وألّا يقبل أن يكونَ إمعةً ومطيّةً لخفافيش الشر وثعابين الظلام، فـ(رايةُ التوحيد) ليست عَلَماً يرفرف، بل سلوكاً يشرّف، وليست حُكماً واحداً ودولة واحدة، بل أمّة واحدة. ونجاحُ الأمم يكون بما ينجزه أفرادها لخدمة البشريّة -كلٌّ حَسَب بلده- من خلال العلم النافع والمعرفة التطبيقية.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج