Site icon مجلة طلعنا عالحرية

عن (فارس) بائع الورد ومانح الحب / رامي العاشق

الفقدُ: أن تلوكَ قطعة من كبدك ثم تبصقها، فلا أنت أخرستَ جوعك، ولا أوقفتَ فطرة الافتراسِ على حدود مظلوميّتك! الفقدُ ضئيلٌ هزيلٌ في ميزان العدالة مهما ثقُلَت فجيعتُه وعظُم نحيبُه، هزيلٌ لأنّه خاصٌّ ومحدودٌ بمن يفتقد الغائب/المغيَّب، ضئيلٌ أمام شموليّة الغياب وعدله، لا أحد أقوى من الغياب، وإنّنا لا نعرف الغياب، وحدهم الغائبون يعرفونه، نحن نعرف أثره، ونفقد/نفتقد من غابوا/غُيّبوا، فمن يفقد (فارس) اليوم؟ ومن يفتقده؟

(فارس) الهارب من الموت والعائد إليه، الهارب لأسباب نعرفها والعائد لأسباب لا نعرفها، كان ابن ستّ سنواتٍ حين قرّر أن يمنح الجميلات وردًا في شارع الحمرا، الجميلات لن يطلب منهنّ ثمن الوردة، سيهديها إليهنّ بدون مقابل، وسيفتح نافذة الفرح على سجون الناس، الأمر أعمق من “عمالة الأطفال”، هل يمكننا اعتبار “منح الحب” للناس عملًا؟ فليكُن إذن!

فارس الهارب من شرق سوريا (الحسكة) إلى مدينة الجمال (بيروت) من الحرب إلى الحب، يرقص ببراعةٍ للعشّاق في الشارع، يقلّد (مايكل جاكسون) ويوزّع الحبّ على جميع الناس، ويمنح حبًّا مضاعفًا لأولئك الذين يشبهونه ويكبرونه بأجيال من السوريين الهاربين من الموت. كان يخفي حزنه وخذلانه كي يحافظ على صورة مانح الحبّ المتنقّل، وإذا خابت تجارته ولم يبع وروده كلّها كان يأوي إلى الأزقّة البيروتيّة الخلفيّة حيث لا يراه الناس.. ويبكي! لم يقبل أن يذهب مع شادي(1) إلى المخيّم ليلتحق بمدارس أطفال اللاجئين السوريين، كان يريد مدرسة دائمة لا تنقطع!

من يوقف هذا الغياب الذي يبتلع الجمال؟ من يكسر أصنامه ويحطّم أسطورته؟ من يرفع سؤاله عاليًا في وجهه؟ من يقف في وجه طائرة حربيّة أمريكيّة أخطأت هدفها كالعادة وأصابت فارس؟ من يقف في وجه طائرة حربيّة سورية لم تخطئ هدفها وقتلت غيره؟ من أغلق الحدود في وجه هروبه الثاني؟ من قتل فارس؟

– إنها الحرب!

– لا ليست الحرب، فارس ليس ضحيّة حرب، لا ضحايا للحرب، الحرب ضحيّتنا نحن، الحرب ذاتٌ مسلوبة الإرادة، لا بندقيّة تطلق لوحدها، لا سجن يبنى من تلقاء نفسه، ولا تمطر السماء قنابل وبراميل!

رحل فارس، من سيضحك الآن في وجه السماء العابسة، السماء التي ترجمت عبوسها قنابل، التي تنتقم من مانحي الحبّ وأبنائه، قليلون هم أبناء الحبّ كثيرون اعداؤه، من سيرفع إصبعه في وجه الموت مبتسمًا؟ من لهؤلاء العشّاق الثكالى في ثكلهم؟ لم يكن فارسَ “أحلامهن”ّ لكنّه كان فارس “يقظتهم” وخالق “ضحكتهم” من العدم، فارس الأبُ الذي يخفي دموعه عن أبنائه، الراقص في وجه القذيفة التي لم تصبه والتي أصابته، الضاحك في وجه صبيّة خانها الحنين ليقول لها: “هَي الوردة إلِك يا حلوِة”، لا ورد في مدينة الحبّ بعد الآن، كلّ الورد الأحمر دمه، كلّ المطر دمعه، كلّ الموسيقا ضحكته، كلّ الرقص فارس.

*شاعر وكاتب صحافي فلسطيني سوري.

Exit mobile version