يجادل العديد من أهل الفكر والفلسفة في أن صادق العظم لم يكن فيلسوفاً، على اعتبار أنه لم يبن نصاً فلسفياً خاصاً، بل إن مجمل أعماله كانت بناء على نصوص كتبها كتّاب ومفكرون وفلاسفة أخرين، وأن الفكر النقدي السجالي الذي اتبعه العظم ليس فكراً فلسفياً أصيلاً، بقدر ما هو فكر على فكر إن صح التعبير.
ويستشهد أصحاب هذا الرأي بكتب العظم نفسها، فما يجمع كتبه كلها، ابتداء من كتابه الأشهر “نقد الفكر الديني” مروراً “بالنقد الذاتي بعد الهزيمة”، وصولاً إلى “ذهنية التحريم” أو “دفاعاً عن المادية والتاريخ” هو النقد، فالنقد بالتعريف هو بناء نص على نص، فلو لم يكتب سلمان رشدي رواية “آيات شيطانية” لما عرفنا ذهنية التحريم أو ما بعدها، ولو لم يكتب إدوارد سعيد كتابه “الاستشراق” لما سمعنا “بالاستشراق والاستشراق المعكوس” ..الخ.
علينا القول أولاً أن الإبداع تعريفاً ينقسم إلى أنواع ثلاثة، فهو إما ابتكار شيء لم يكن موجوداً بإطلاق، (وهو ما يقف عنده أصحاب الأصالة الفلسفية، وهو أشبه بخلق شيء من عدم) أو اكتشاف شيء كان موجوداً دون أن ندري به، والنوع الثالث هو اكتشاف علاقات جديدة بين أشياء موجودة، وهذا الأخير هو الأقرب لمدار تفكير العظيم وإبداعه الفلسفي والنقدي.
ثانياً إن الإبداع الفلسفي لا يشذُّ عن صنوف الإبداع الأخرى في العلم والأدب والفن والسياسة، وإن كان يحمل خصوصية العمل بالكليّات والمفاهيم، وإذا كان جيل دولوز قد “ورّطنا” بتعريف الفلسفة على أنها “إنتاج المفاهيم”؛ وهو تعريف مطوَّر عن نظرية أفلاطون في تذكر المُثل، فإن لذلك مكان وزمان آخر، فالإنتاج الفلسفي المفهومي ارتبط بالإنتاج العلمي، نقداً وسجالاً وتوليداً ومجابهة، منذ ولادة الفلسفة، والحضارة المنتجة للعلم والفلسفة منذ الثورة الصناعية هي الغرب، فكيف تنتج مفاهيم فلسفية بلغة عربية ترفض منذ الفراهيدي وسيبويه إضافة مصطلح جديد دون موافقة مَجْمع لغة عربية أكلته القدامة وفاته الزمن، ويترجم الكمبيوتر على أنه حاسوب؟ وكيف تنتج المصطلحات العلمية والفلسفية الجديدة في ظل أنظمة سياسية تعلّم الخنوع في المدارس، ثم تقصفها، وتقتل السؤال والدهشة (أساس الفلسفة) في الخوف وثقافة الخوف، أنظمة، يحتاج تغيير رئيسها والتداول السلمي للسلطة فيها؛ وهو أمر بسيط وبديهي عند غيرنا، إلى ثورة ومليون قتيل وبلد مدمَّر دون أن تنجح بتغييره؟ كيف تنتج المفاهيم الجديدة دون مناخ للحرية وحضارة سيِّدة وصاعدة ومشاركة في العالم وصناعة التاريخ؟
ونحن لا نورد كل ما سبق لنقول بأن الفلسفة غير ممكنة ولا موجودة في الثقافة العربية المعاصرة مثلما يفضّل الكثيرين من أصحاب العُقد الحضارية وتأليه الغرب، بل لنقول أن مهمة الفلسفة ووظيفتها عندنا؛ كانت وربما ستبقى إلى أمد غير معلوم، مختلفة، حيث إن مهمة الفلسفة الأولى كما عبّر عنها، وعاشها فلسفياً صادق العظم، هي النقد، لكن النقد ليس آلية ساذجة على طريقة خالف لتعرف، ولا آلية رفض عدمية ونزقة ترفض الواقع لأنها محمّلة بيوتوبيا خلاصية وأحلام وردية، بل إن النقد كما مثّله العظم كان تفلسفاً “بضربات المطرقة” إذا استعرنا تعبير نيتشه، فهو تحليل وتفكيك وتأويل وتفسير منهجي ومنطقي، يطرق الحوائط الصلدة للتفكير المرتاح إلى مسلّماته وبديهياته، ويهدم بقوة العقل الوقّاد قلاع الثقافة والسياسة والدين والأخلاق والحب والأدب والفلسفة التي بنت واقعنا وبنينا هذا الواقع عليها.
والعظم بهذا المعنى كان فيلسوفاً كوسموبوليتياً معاصراً يربط أعزّ مشكلاتنا الواقعية والتاريخية بواقعها المعاصر، فمن قرأ “في الحب والحب العذري” يدرك كيف فنّد العظم تصوراتنا الثقافية الرومانسية عن الحب ليقول أن الحب العذري ليس سوى تعبيراً عن الشهوات المكبوتة، ومن قرأ “نقد الفكر الديني” سيرى كيف أثبت العظم بالمنطق الفلسفي المعاصر كيف كانت مآساة إبليس بين أمر الله وإرادته من أعظم وأكبر المآسي في التاريخ الثيولوجي، وكيف أن القوة الخارقة للعذراء لم تظهر إلا بعد هزيمة الـ 67، لتعوض خيلائياً وجمعياً عن القوة الواقعية المفقودة، ومن يقرأ “النقد الذاتي بعد الهزيمة” سيدرك أن المفعول السياسي لنكران الهزيمة عبر تسميتها “نكسة” ليس سوى هرب من مواجهة الذات الجمعية المهزومة وتعالٍ أجوف عن مشاكلنا الحقيقية بتحميلها لقوى خارجة عنا، وذلك بتكاتف سياسي ديني لا يغيّب سوى الحقائق ليبقى هو مخلِّصاً بارنوئياً يستغل الواقع ويركب عليه، ثم في مرحلة أخرى ينتقل العظم ليربط مشكلاتنا مع العالم بمرآة متعاكسة، وبمعاصرة قلَّ نظيرها، فمن يقرأ “ذهنية التحريم” يدرك أن صمت المثقفين والثقافة العربية عن فتوى الخميني بهدر دم الروائي العالمي سلمان رشدي ليس سوى صمت عن الفتوى غير المعلنة لأنظمتنا وسياسيينا بهدر دم كل من يفكر بالخروج عن المؤسسة التقليدية السياسية والدينية المتحالفة في بلادنا، ومن يقرأ مقال العظم الذي أصبح كتاباً بمشاركة حسن حنفي “ما العولمة” يدرك كيف أن الكلام الأيديولوجي الثقافي عن العولمة المنتشر في بلادنا وقتها، والذي يصف العولمة بأنها “نظام سياسي اقتصادي اجتماعي يبتلع الناس ليتقيأها سلعاً” أو أنها جزء من الغزو الثقافي الغربي لتراثنا وثقافتنا، هو كلام لا يعرف شيء عن العولمة، ولا يصب في المحصلة إلا في مصلحة الأنظمة التي تريد تغييبنا بكل المعاني عن حركة التاريخ.
وأخيراً من يقرأ “دفاعاً عن المادية والتاريخ” وهو الكتاب الفلسفي الأهم للعظم، سيدرك أهمية نقاش العظم وتفنيده الحواري للتيارات الفلسفية منذ ولادة الحداثة مع ديكارت، وحتى ما بعد الحداثة بتياراتها المتشعبة والمتشابهة منذ نيتشه مروراً بهايدغر ووصولاً لجاك ديريدا وميشيل فوكو وتوماس كون وبول فايرباند.
ربما يثبت العظم بطريقة سقراطية في هذا الكتاب الكبير أن الفلسفة في المحصلة ليست توليداً مطلقاً للجديد من لا شيء فحسب، بقدر ما هي حوار تهكمي وتوليدي حر مع الفكر الفلسفي القديم والمعاصر، لعصرنة الفكر وربطه بالواقع كما هو، وكما يجب أن يكون، وهذا ما عاشه أكبر الفلاسفة في بنائهم ونقدهم لمن كانوا قبلهم ومن عاصروهم، وهذا ما فعله العظم.
يقول هيغل: “إن الفلسفة هي زمانها وقد تم استيعابه على مستوى الفكر”، والفيلسوف السوري الراحل صادق جلال العظم لم يكن إلا معاصراً لزمانه الفلسفي ومواكباً لأحداث زمانه في أهم مفاصله التاريخية، ولاسيما زمن الثورة السورية الراهن، الذي عاشه العظم وساهم فيه قلباً وعقلاً وكتابة، وها هو اليوم يموت واقفاً قرب شعبه، بعيداً عن بيته الدمشقي الكبير، وبعيداً عن دمشق التي يحتلها من نفاه.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.