يفترض بعض المتابعين للشأن السوري مؤخراً، تأسيساً على حملتي ‘‘الكرسي إلك والتابوت لأولادنا’’ و‘‘وينن’’ الفيسبوكيتين، بأن هزةً أصابت وجدان وضمائر المؤيدين ــ أو بعض قطاعاتهم على الأقل ــ أدت إلى انزياحٍ أو تبدل أهواءهم وتوجهاتهم، بشكلٍ ربما سيفضي لاحقاً إلى تغيير اصطفافهم السياسي، أو تفكيك تمترسهم الطائفي، الأمر الذي سيدفعهم للانفضاض عن النظام، والتخلي عنه، ويستبشر بعضهم أيضاً، بأن تلك التغييرات والتبدلات الطارئة على المزاج العام للمؤيدين، والمعبر عنها في المجال الافتراضي من خلال بعض الصفحات المستحدثة، وعبر تلك الحملات وأشباهها، أنها تؤشر لبدايات انتفاضة، أو حركة تمرد ضد النظام، من قبل مؤيديه، ولا سيما من قبل العلويين، الذين فقدوا الآلاف من شبابهم، وأبنائهم خلال السنوات الثلاث الماضية في الحرب التي يشنها نظام الأسد على المواطنين السوريين.
لكن، الحقيقة إن ذلك الافتراض ليس له أي أساسٍ واقعيٍ يدعمه، أو يسنده، فالمزاج العام للمؤيدين لم يطرأ عليه في الواقع أي تغييرٍ، أو تعديلٍ حقيقيٍ، ولا يمكن بأي حالٍ الركون إلى معطيات العالم الافتراضي لتقرير حدوث مثل تلك التغيرات، والتحولات النوعية، في الوقت الذي يقدم الواقع اليومي أدلةً تثبت عكسها، ذلك أن رواد العالم الافتراضي وفاعلوه لا يعبرون عن آراء وتطلعات فئات تقع خارج حدود ذلك العالم، ممن لا يتيسر لهم الوصول إلى جنباته، لأسبابٍ تقنية، كضعف الخبرة باستخدام الانترنت، أو لغياب أجهزة الحاسوب وأجهزة الهاتف المحمول، أو بسبب انقطاع الكهرباء، مثلاً، أو لعدم اقتناعهم بجدوى النشاط والتفاعل الالكتروني أساساً، ولذلك فإنهم وبالدرجة الأولى إنما يعبرون عن أرائهم، وتطلعاتهم، وميولهم الشخصية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فلو سلمنا بإمكانية أن يكون أولئك ‘‘الناشطون’’ وغالبيتهم من المؤيدين، ومن خلال صفحاتهم، وحملاتهم يعبرون عن رأي عام ــ جزئي بطبيعة الحال ــ، لا عن مجرد آراءٍ فردية، أو أحاديث شخصيةٍ، فإن تفسير تلك النشاطات الافتراضية على أنها بداية تمردٍ، أو انتفاضٍ على النظام، أو على سياساته وخياراته الأمنية، والعسكرية، تحمل مقداراً من الجهل، وسوء الفهم، أو مقداراً من التوهم، والتمني على طريقة الـ ‘‘Wishful Thinking’’ في أحسن الأحوال.
والأرجح أن ذلك التمرد إن وُجد حقاً، فهو في حقيقته انزعاجٌ مبررٌ من أداء النظام الضعيف، وتململٌ متوقعٌ من الهزائم، والانتكاسات التي مني بها مؤخراً، على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية ‘‘داعش’’، ولا سيما أنها قضت على توقعاتهم الإيجابية المبنية على الوعود الكبيرة، التي وردت في خطاب القسم الأخير.
ولذلك فإن تلك المشاعر والتعبيرات الغاضبة والسلبية، لا تشكل أساساً لحركة تمرد على النظام، أو على سياساته، أو على سلوكه، أو ضد وجوده، وإن تميزت بنبراتٍ حادةٍ، أو وصلت إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ في صيغة الخطاب ومضمونه، وحتى لو تناولت رأس النظام شخصياً، كما هو الحال في حملة ‘‘الكرسي إلك والتوابيت لولادنا’’، فالالتحام العضوي والتشابك بين النظام، والمؤيدين لا يزال متيناً، والروابط فيما بينهم لا زالت تتمتع بالشدة، والتعقيد بما لا يمكن لمجزرةٍ، أو هزيمةٍ عسكريةٍ أو أكثر، أن تؤدي إلى تداعيها، أو تفككها بتلك الصورة السريعة المتخيلة، هذا من ناحية أولى.
وأما ‘‘التطاول’’ و‘‘التجرؤ’’ على شخص «بشار الأسد»، وتناوله بالنقد، فهذا أيضاً لا يُعد مؤشراً على ثورة، أو انقلاب في المفاهيم، أو تبدل في القناعات والخيارات السياسية، فهو ليس بالأمر الجديد على المؤيدين ــ على عكس ما يعتقد البعض ــ ففي مرحلة الثورة السلمية منتصف آذار (2011)، وحتى ربيع – صيف (2012)، وعندما كانت المظاهرات تعم البلاد، خرج المؤيدون بمسيراتهم ‘‘العفوية’’، وكان لافتاً في بعض تلك المسيرات، وخصوصاً في المرحلة التي شهدت تراجعاً كبيراً للنظام، أن يظهر هتافٌ يقول: ‘‘بشار للعيادة وماهر للقيادة’’.
وواضح ما تضمنه ذلك الهتاف من تطاول وتجرؤ على شخص «بشار الأسد»، ومن تشكيك بقدراته، وكفاءته للقيادة والحكم، فضلاً عما أظهره أيضاً من انعدام إيمان المؤيدين، أو اكتفائهم بمقدار العنف، والبطش، والإرهاب الممارس من الأجهزة الأمنية، والعسكرية التابعة له، فكانت مطالبتهم صريحةً بعزله، وتولية شقيقه «ماهر الأسد» وهو المعروف في أوساطهم على أنه ضابطٌ مجرمٌ، وبالتالي سيكون أقدر ــ حسب اعتقادهم أو تمنياتهم ــ على قمع الثورة، وقتل المتظاهرين.
وفي المرحلة المسلحة، وعندما كانت قوات النظام تجتاح المدن والبلدات، وتُعمل في المواطنين قتلاً، وذبحاً، وتعذيباً، واعتقالاً، كانت تترك على الحيطان والجدر شعاراً يقول: ‘‘حاربوك ونسيو مين أبوك’’، وإذ يحيل هذا الشعار إلى زمن ‘‘الأب’’ المشهود له بالمكر، والخبث، والإجرام، والذي تميز حكمه بالعنف، والإرهاب، ويوحي بأن القتلة الحاليون، هم امتدادات لأشباح مجرمي عصر «حافظ»، فإنه يفيد أيضاً الاستنتاج بالمفهوم المخالف، أن «بشار» لا يشبه أباه، ولا يُعد تبعاً لذلك مؤهلاً ليكون خليفته، فالنظام، و»بشار»، والقتل موجودون بفضل «حافظ»، حتى وإن كان ميتاً.
الشعاران السابقان فيهما تطاولٌ، وتجرؤٌ على رأس النظام، واستعارة بديلٍ حيٍ مرةً، وسلف ميت تارةً أخرى، عدا عن أنها تنال من الخلف وتهينه، إلا أنها تكشف أيضاً طبيعة تعقيد، وعمق الاصطفاف السياسي والطائفي للمؤيدين، ولذلك من المستبعد أن تكون ردات الفعل ‘‘الافتراضية’’ الأخيرة دليلاً على تغير موقفهم، أو مراجعة خياراتهم.
وأكثر من ذلك، فإنه من غير المرجح في الوقت الذي يظهر فيه طرفٌ معادٍ للنظام، وهو ‘‘داعش’’، مستويات غير مسبوقة من العنف، والتطرف، أن تكون الاستجابات النفسية، والسياسية للمؤيدين، معاكسةً، بحيث تتجه إلى تخليهم عن موقفهم السياسي، وتراجعهم عن تأييد نظامهم، المستهدف من قبل ‘‘داعش’’.
يُحتمل أن يكون المؤيدون قد شعروا بالخذلان، أو هالهم الرعب الذي أظهرته ‘‘داعش’’، أو لم ترقهم مناورة النظام الذي ضحى بأبنائهم، طمعاً بتجديد تفويضه الدولي كقوة مقبولة لمكافحة الإرهاب، لكن هذا لا يعني أن المؤيدين قد وصلوا إلى قناعةٍ بضرورة التخلي عنه، فأوهام المؤامرة، وأحلام الانتصار لا زالت تسكن مخيلتهم، وتحكم سلوكهم، وردات فعلهم.
سؤال ‘‘وينن’’ لا بد منه، لكن الأولى أن نسأل به عن الأحياء، لا عن الأموات والمفقودين، وطالما بقي المؤيدون على مواقفهم، وتعامى المعارضون عن الحقائق، وحضرت الأوهام والسرديات، وغابت لغة العقل، والمنطق، والواقع، ولم تتوفر آليات الحوار، والتفاوض للوصول إلى الجوامع، والمشتركات، بعيداً عن المطالبة بالتطمينات، أو السعي لتأبيد الامتيازات، فإن أحداً لن يبق بعدها ليسأل، ولن يعرف أحدٌ..‘‘وينن’’.