علي فاروق
كل شيءٍ مختلف في محافظة إدلب، بيئة جديدة ومغايرة كلياً؛ البيوت، الشوارع، حياة الناس.. قطيعة تامة مع كل ما يمت للنظام، لم أعهد مثل تلك القطيعة الحادة في مناطقنا؛ في مدينتنا التي بقيت “محررة” لأكثر من ثلاث سنوات..
استمرت المؤسسات الحكومية بالعمل؛ المدارس، البلدية، المحكمة، مقسم الهاتف..، والتزم الطلاب والموظفون بدوامهم المعتاد. أنا نفسي كنت موظفاً في إحدى الهيئات العامة، إلى أن تمّ اعتقالي، وفصلي من العمل. أما في إدلب فلا يوجد شيءٌ من ذلك؛ في مدينتنا أيضاً استمر “المؤيدون” بالإقامة بصورةٍ طبيعيةٍ، وكانوا يستطيعون الإعلان عن مواقفهم، وكان تعاملنا معهم اعتيادياً؛ بينما في إدلب يستحيل أن ترى أثراً لـ”المؤيدين”، كما لا يكاد يخلو بيتٌ في إدلب من وجود ابن أو أكثر، يرابط على إحدى الجبهات، ولكل عائلةٍ العديد من الشهداء والمعتقلين والمصابين..
حين تزور إدلب يتملكك شعورٌ أنه لولاها لما كانت هناك ثورة، يغمرك إحساسٌ بالخجل عندما تقف أمام أحد رجالها أو فتيانها أو نسائها؛ فلديهم مخزونٌ هائلٌ من الطيبة والشجاعة والكرم، وهم لا زالوا يضحّون من أجل الثورة، وينادون بالحفاظ على قيمها وشعاراتها الأولى، ويحلمون بالحرية والعدالة، ويدافعون عن وجودهم وأرضهم، كما يدافعون عنا جميعاً..
انتشر في السابق العديد من التصورات والانطباعات الخاطئة عن إدلب، كما أن الكثير من وسائل الإعلام لم تنصفها، لا وبل ساهم بعضها أحياناً بتعميم أفكار سلبية عن طبيعة الناس وتوجهاتهم هناك؛ لا شك أن معظم سكان إدلب محافظون، ومتدينون، لكنهم وسطيون، بعيدون عن التشدد والتطرف الديني، وهم أيضاً أبعد ما يكونون عن السلوكيات المنحرفة، ولأنهم يعلمون ما يُشاع عنهم، كان أول ما يوجهونه لي دائماً: ما الذي تعرفه عن إدلب؟ وهل تطابق ما عاينته مع ما كنت تسمعه قبلاً؟
أول ما يلفت انتباه زائر إدلب، تلك اللوحات واللافتات الكبيرة، بالأبيض والأسود، الموجودة في الساحات الرئيسة، وعلى جوانب الطرقات، والتي تحمل شعارات وتعاليم إسلامية، وتتساءل في نفسك: ما هذه الشعارات؟ ولماذا هي موجودة؟ وهل تعبر حقاً عن تطلعات السكان، ورغباتهم السياسية والدينية هنا؟
لا يوافق أغلب من التقيتهم في إدلب على وجود تلك اللوحات، -وإن كانوا لا يُنازِعون في مضمونها-، ويعتقدون أن وجودها بهذا الشكل إنما يخدم دعايات النظام، ويتفقون على أنه يساهم في تعزيز مقولاته، في وصم الثورة بالمخطط والمؤامرة “الإرهابية”، لانتزاع أجزاء من سوريا، وإقامة “إمارة متشددة” فيها..
في اليوم الأول لوصولي إلى إدلب، توجهت إلى ريف سراقب، حيث تقيم عائلة صديقي، الذي تعرفت عليه في السجن، استقبلني شقيقه الأوسط بحفاوةٍ، وقضيت في منزله يوماً ونصف..
في اليوم الثاني أرسل صديقي، الضابط المنشق “أبو محمود”، شخصاً لم أكن أعرفه، لاصطحابي إلى ريف مدينة جسر الشغور، وكانت تلك هي المرة الأولى التي ألتقي فيها “أبا يزيد”..
“أبو يزيد” شابٌ ملتزمٌ، لطيفٌ، وخلوقٌ، في مطلع العقد الثالث من عمره، متزوجٌ، وله طفلٌ جميلٌ؛ كان مقاتلاً، وقائداً سابقاً لكتيبة ثورية، وآخر مشاركاته العسكرية كانت “الانغماس” في مشفى جسر الشغور، أثناء عملية تحريره الشهيرة.. اعتزل “أبو يزيد” العمل العسكري، بعد تحرير مدينة جسر الشغور، وتفرغ للعمل الإغاثي والإنساني..
يُعرِّفُ “أبو يزيد” نفسه بأنه شابٌ “سلفيٌ”، لكنه يطرح، مع العديد من أصدقاءه الذين التقيتهم، آراءً غير تقليديةٍ تخص الشعارات المرفوعة من قبل الفصائل الإسلامية، كما أن لهم تصور مختلف للمفاهيم التي تسعى الفصائل والحركات لتعميمها أو تطبيقها، كمفهوم “الجهاد”، ومفهوم “الدولة الإسلامية”، وهم يعتقدون أن الطرح الذي تقدمه الفصائل قاصرٌ وانتقائيٌ، وأن الهدف من طرحها بذلك الفهم الخاطئ، والظروف غير الملائمة، ما هو إلا محاولة لتحقيق مكاسب خاصة، أو لفرض أجندات خارجية ربما..
صباح يوم الجمعة أيقظني “أبو يزيد” باكراً، واصطحبني لزيارة منزل “جمال”، في قريةٍ تابعةٍ لمدينة أريحا، و”جمال” طفلٌ لأبٍ شهيدٍ، وهو يُعاني منذ الولادة، من فتحة في القلب، هناك قدم “أبو يزيد” وأصدقاؤه، مبلغاً من المال لعائلة الطفل الجميل.. وعند العودة مرّ “أبو يزيد” على مخيم “مريمين” للنازحين، واصطحب معنا “سيدرا” وأشقاءها الثلاثة، وهم أيضاً أبناء شهداء، حيث أخذهم “أبو يزيد”، وصديقه لشراء ثيابٍ جديدةٍ، ومن ثم دعونا جميعاً لتناول الغداء، في مطعم البلدة الصغير..
خلال الطريق كان “أبو يزيد” يحدثني عن رؤيته، وتطلعاته لمشروعه الجميل “صدقة”، وهي جمعية أسسها “أبو يزيد” ومجموعة من أصدقائه، حيث يقتطعون جزءاً من رواتبهم، ويطوفون على معارفهم وأصدقائهم، يجمعون المال، ومن ثم يقدمون المبلغ للأشخاص الأشد احتياجاً، في مختلف أرجاء المناطق المحررة، وقد أطلعني “أبو يزيد” على معظم أعمال ونشاطات “منظمتهم” الواعدة، والتي لا تحظى بأي دعمٍ، ولا تمويلٍ، ولا يبتغي أعضاؤها الوصول إلى الشهرة، ولا تحقيق المكاسب؛ فهم يقومون بذلك العمل، من منطلق إحساسهم بالواجب تجاه إخوتهم وأشقائهم، الذين أفقدهم عدوان النظام وبطشه، الأهل والبيت وسبل الحياة، وحولهم إلى أيتام مستضعفين، أو مشردين معوزين..
بعد أسبوعين أيقظني “أبو يزيد” باكراً مجدداً، هذه المرة لزيارة عيادة نفسية، في بلدة الدانا، حيث اعتاد “أبو يزيد” على اصطحاب بعض المرضى من بلدته والبلدات المجاورة، مرةً أو مرتين شهرياً، لتلقي العلاج والدواء المجاني في تلك العيادة؛ يتطوع “أبو يزيد” لاصطحاب أولئك المحتاجين من تلقاء نفسه، بسيارته الخاصة، وعلى نفقته الشخصية، ومن ثم يقوم بإعادتهم إلى منازلهم..
ما رأيته من “أبي يزيد”، وأصدقائه في إدلب، مثال لأبطالٍ وثوارٍ عظماء يصعب أن نؤمن بوجودهم حقاً، وخصوصاً بعد ما أصابنا التعب، واليأس خلال السنوات الأخيرة، وفي الحقيقة أواجه صعوبةً كبيرةً في الحديث عما رأيته من ذلك الشاب الشجاع الطيب “السلفي” وأمثاله، لكن ربما يكفي القول، إنه حين وطئت قدمي الأراضي المحررة، مهجراً، كان شعوري بالعجز، والانكسار غامراً، وقد شارفت على الانهيار كلياً، لولا أني التقيت “أبا يزيد”، وعايشت ثورته.
مواليد العام 1981، يحمل إجازة في الحقوق، طالب ماجستير في العلاقات الدولية – كلية العلوم السياسية، ومعتقل سابق، كاتب رأي، مهتم بالقضايا السياسية، والقانونية، والاجتماعية.