تميزت حركات التحرر من الاستعمار الأوربي خلال القرن العشرين بطابعها الوطني البحت, وكان ذلك نتيحة لعاملين هامين. أما الأول فهو رواج الفكر القومي في العالم والذي بدأ في أوربا وانتشر إلى بلدان الشعوب المستَعمَرة. أما العامل الثاني فهو أن تلك الشعوب شعرت بخطر داهم يحيق بهويتها الوطنية, الناشئة غالبا, جراء هذا الاستعمار الذي كان على يد دول تقوم على القومية. لم يشعر الجزائريون مثلا بأن هويتهم المسلمة في خطر, بل كان الشعور بأن فرنسا تسعى إلى فرنسة الجزائر, ومحو جزائريتها, ولم تكن تسعى إلى “تنصيرها” أبدا, رغم وجود جهد تبشيري رافق الاستعمار الأوربي في غير مكان من العالم وآتى ثماره.
انطلفت الثورة السورية في شهر آذار 2011 بعد أن أطلقت ثورة تونس العنان لربيع عربي مالبث أن تحول إلى خريف إسلامي دموي. تجلت الثورة السورية هذه في خروج مظاهرات عارمة في معظم أنحاء البلاد ذات الأغلبية السنية (بما في ذلك المناطق الكردية), وكانت دوافع هذه المظاهرات المطالبة بالحرية, دون تحديد دقيق لهذه الحرية التي يسعى إليها الشعب الذي رزخ تحت استبداد العسكر والعائلة الحاكمة لنصف قرن كامل, ورأى حكماً “جمهوريا” يورث إلى ابن طاغية قاصر, في السياسة على الأقل. تميزت المظاهرات بحس وطني واضح في الأشهر الأولى, وكانت شعاراتها جلية المعالم, وعلى الرغم من قول البعض بأن بعض الشعارات كانت طائفية, وقد يكون هذا صحيحا أومجرد افتراء أو من تدبير مخابرات النظام, إلا أن السواد الأعظم من هذه المظاهرات , ومارافقها من نشاط مدني وإعلامي وحقوقي, تسامى عن النزعات الدينية والمذهبية, بل وسعى إلى جذب كل المكونات الأخرى إلى هذا الحراك التاريخي, بما في ذلك العلويين المحسوبون على النظام. لكن النظام الذي رأى في الثورة خطرا شديداً عليه, مالبث أن بدأ بتوجيه أصابع الاتهام إلى الثورة على أنها ثورة مذهبية, سنية رجعية على حكم علماني (أو “علوي”). هذا ما ظهر على الملأ غالبا باستثناء ماقالته بثينة شعبان عن ذبح على الهوية في بعض المناطق في أسابيع المظاهرات الأولى والكل يعرف أنه افتراء لا غير. في الكواليس الخاصة بالنظام وفي أحاديث مؤيديه الجانبية كانت الاتهامات أكثر وضوحا للثورة بأنها ثورة “وهابية سنية “على نظام “علوي”, ومالبث تأييد النظام الشيعي في إيران, وحزب الله الشيعي اللبناني, والحكومة العراقية الموالية لإيران والتي يسيطر عليها الشيعة, لنظام الحكم في دمشق ضد إرادة الجماهير, أن جعل من التصدي لهذه الثورة, بالنسبة للبعض عملاً ذا طابع مذهبي, يقمع من خلاله النظام “العلوي” وحلفاؤه “الشيعة” الأكثرية “السنية” التي خرجت مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة التي غابت عنها لنصف قرن.
على الطرف الآخر, رأى كثيرون ممن ساند السوريين في الدول العربية ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي أن هذا القمع للثورة ذا بعدٍ ديني, وبدأت هذه الرؤيا تصقل شكل الدعم الذي بدأ يغدقه هؤلاء على السوريين للوقوف في وجه الطاغية وآلة القتل بدعم من حلفائه الذين ذكرنا, وبدأ يؤثر إلى حد كبير على حاملها الفكري, الذي بدأ بالتحول من المطالبة بالحرية إلى المطالبة بحكم الشرع, كبديل عن النظام العلماني المستبد والكافر الذي يستهدفهم في عقديتهم. إن الإحساس بهذا النوع من الخطر لا يوقظ إلّا المشاعر الدينية, ولا يتطلب الأمر أن يكون الإنسان متدينا ليهب للدفاع عن المجموعة المذهبية التي ينتمي إليها, بل يكفي أن يشعر بأي نوع من الانتماء إليها, ويكفي أن يشعر بالخطر!
كانت هذه العوامل مجتمعة سبباً حاسماً في تشكيل وعي سني في صفوف الثورة, حيث شعرت الأغلبية السنية والتي شكلت عماد الحراك السلمي ثم العسكري لاحقا (ربما لأن السنة هم الأغلبية العددية وحسب), بخطر محدق يتهدد عقيدتها, ووجودها كمجموعة دينية, واستيقظ لديها إحساس عارم بضرورة حماية هذا الوجود بالوسائل المتاحة أياً كانت, ودعم هذا الإحساس تسلل مجموعات ترتبط بالقاعدة, رائدة هذا الفكر, إلى سوريا وإعلانها الوقوف إلى جانب الأخوة “السنة” في وجه النظام “النصيري” والمد “الشيعي “ الإيراني. وزاد الأمر تعقيداً تدخل حزب الله, ثم إيران والميليشيات العراقية الشيعية المتورطة أصلا بجرائم حرب ضد السنة في بلادها, في الصراع وقتالها إلى جانب الأسد ورفعها لشعارات طائفية موجهة ضد السوريين “السنة” بوصفهم “قتلة الحسين” و “أحفاد معاوية بن أبي سفيان”.
لا أستطيع الجزم بأن النظام قد خطط لهذا الأمر, لكنه كان يدرك منذ اليوم الأول أن إيقاظ سنية السوريين من خلال وضعها في دائرة الخطر المباشر سينهي ثورتهم, ويفض العالم الذي تعاطف معهم من حولهم, ويجعلهم فريسة للفكر المتطرف المحيط بهم أصلا. من المرجح أنه أراد استخدام هذا السلاح في حدود ما لبثت أن أصبحت خارج دائرة قراره مع سيطرة إيران على مقدرات الصراع, ودخول حزب الله ودوره في تأمين مناطق القلمون ومناطق أخرى في محيط دمشق والحؤول دون وصول الثوار إلى العاصمة, معقل النظام الأساسي, ومع توافد الميلشيات الشيعية من أفغانستان والعراق وغيرها. أفلت النظام مارداً من قمقم هو أشبه بجهنم, ولم يعد بوسعه التحكم فيه أو توجيهه. لقد فشل النظام باستخدام هذا السلاح كما فشل في استخدام سلاح القمع. كلاهما سلاح يحتاج إلى الكثير من الحنكة المفتقدة لدى كل من نظام الأسد، والنظام الإيراني الذي نصح الأسد باستخدام هذا السلاح في الأيام الأولى للثورة, وأطلق مارد العنف والطائفية وأصبح عاجزا عن احتواءه على أيً من طرفي هذه الصراع المليءبالموت والدمار والألم.