منذ أن بدأت الانتفاضة السوريّة الشاملة ضد نظام الأسد نادى السوريّون بالوحدة الوطنية، وكانت دعوات نبذ الطائفية من أوائل الدعوات التي تبنّاها الحراك مباشرة بعد مطلب الحريّة والإصلاح، تأكيداً على الوعي الشعبي بضرورة الفصل بين الطائفة العلويّة ونظام الأسد، حتّى وإن كان الوعي الجمعي يختزن الكثير من المسلّمات حول تورّط النظام في لعبة الطائفية، وتورّط شباب العلويّين أكثر من غيرهم في تشكيل القاعدة الصلبة التي يقوم عليها هذا النظام..
بدأ الوعي الجمعي بطائفيّة النظام يتشكّل منذ السبعينات، وقد حرص النظام في تلك الفترة على تجميل شكله الخارجي بشخصيّات من الأكثريّة السنيّة، سيما في بعض المناصب الحزبيّة والإدارية في الدولة. مع الوقت تكرّست وثوقيّة وعي الناس بالطائفيّة بشكل متزامن مع تصاعد الرعب من الإفصاح عنها، وتضاؤل هامش حريّة التعبير إلى أن تناهى إلى العدم.. وبعد الصدام الدموي بين النظام والإخوان استغلّ النظام انتصاره فيه ليسحق أي بوادر لمعارضة مستقبلية في المجتمع لعقود قادمة، فشنّ حملة استئصالية استهدفت، بشكل أساسي، المكوّن السنيّ، صاحب ذلك إعطاء دور أكبر لتيار استئصالي متطرّف داخل النظام لمواجهة المدّ الأصولي المتصاعد في المجتمع بفعل المواجهة القمعية للسلطة، تمثّل هذا التيّار بعدد من الشخصيّات العلويّة القادرة على مركزة العصبية الطائفية لخدمة النظام في فترة حرجة كان النظام قد فتح فيها عدّة جبهات خارجيّة في الوقت ذاته..
في مرحلة لاحقة كان المجتمع قد عضّ على جراحه خوفاً من تكرار الأحداث السابقة، وتنامت الأزمة الطائفية بصمت دون أن تحظى بمعالجة كافية، ممّا عمّق الحذر الصامت بين الطوائف، بشكل خاص بين المكوّن العلوي والسنّي، الذي صبّ في مصلحة النظام وحده في نهاية المطاف.. وشيء مشابه حدث بخصوص الحساسيّة الإثنيّة العربيّة-الكرديّة..
في ظل جوّ مشحون بالمواقف المسبقة وسوء الفهم والمظالم المتراكمة والخوف جاءت ثورة السوريّين لتحاول إصلاح كل ما سبق.. كل ما يصعب إصلاحه، أصلاً، في ظروف مثالية!
لعب النظام على الوتر الطائفي منذ الأسابيع الأولى، ولم تصمد شعارات الثورة طويلاً بعد أن لوحق شبابها وغيّب غالبيّتهم قتلاً أو اعتقالاً، وما رافق ذلك من ممارسات ومجازر طائفيّة التي يشير تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنّها بلغت حوالي الـ 35 مجزرة تفرّدت بارتكابها القوات الحكوميّة والمليشيات التابعة لها ما بين آذار 2011 وحزيران 2013..
حاول السوريون المعارضون لنظام الأسد مواجهة الحالة الطائفيّة، المسكوت عنها سابقاً، منعاً لتحوّل الثورة إلى حرب طائفيّة مهلكة، فكانت دعوات اللا طائفيّة تعكس أملاً ببناء نموذج مختلف عن ذلك الذي اعتمده نظام الأسد، ولم تكن تلك “اللا طائفيّة” تعني بحال من الأحوال إنكاراً للأزمة الطائفيّة؛ أي مثّلت الدعوة الأولى وعياً بطائفيّة النظام مما يستدعي، بداهةً، لا طائفيّة الثائرين عليه، كي يصلح أن تسمّى انتفاضتهم ثورة! هذه الدعوة لم تنكر على الثائرين شعورهم بالظلم الطائفي، إن كان الذي لحق بهم في بداية الثورة أو لحق بالأجيال السابقة، لكنّها خاطبت وعيهم للتركيز على بناء واقع مختلف.. من ناحية أخرى، ظهرت دعوات أخرى ترفع شعار “اللا طائفية” بمضمون مختلف تماماً؛ ظهرت، ليس لتحول دون تشبّه الضحيّة بنظامها، وإنما لتجرّم كلّ كلام يؤدي إلى اتهام للنظام بالطائفيّة أو اتهامه بتوريط طائفة ما في الدفاع عنه.. تعاملت هذه “اللا طائفية” مع الناس بفوقيّة ومنح أصحابها أنفسهم سلطة تقييم استعلائيّة، كانت بدايتها مع أصوات متفرقة من معارضين سابقين أرادوا ممارسة سلطة أبوية على الحراك، ثم ظهرت بشكل جليّ بعد خروج عدد كبير من الناشطين إلى دول مجاورة حيث تمّ استقطابهم من قبل منظمات دولية وتأطيرهم ضمن أنشطة تركّز على معالجة نقاط هامة كبناء السلم الأهلي ومهارات التعامل مع الأزمات من وجهة نظر هذه المنظّمات وبحسب تقييمها للواقع السوري.. الثغرة الأهم في هذه الدعوة لـ “اللا طائفيّة” تتمثّل في تجنّب أصحابها بشكل مطلق الكلام حول مسألة طائفيّة النظام، ودور الطائفة العلويّة فيه، قبل الثورة وبعدها أيضاً.. والانشغال بالتركيز على واجبات الحراك في أن يكون نقيّاً من أي توجهات طائفيّة! ليس هذا فحسب، بل صاحب هذه الدعوة في كثير من الأحيان موجة إنكار مطلق لطائفية النظام من خلال التأكيد المستمر على دور الأكثرية في تثبيت أركانه، وفي هذا تضليل لم يأخذ حقّه من العمل الثقافي خلال الثورة، فالعصب المركزي للنظام عصبٌ علويٌّ من الدائرة الأكثر قرباً وولاءً لعائلة الأسد، بينما كانت الأدوار التكميلية الهامشية “والضرورية لاستمرار النظام للحيلولة دون توريطه في مواجهة مستمرة مع المجتمع” تعطى لوجهاء المجتمع من الطوائف المختلفة بحسب الولاء، وهذا الكلام، الذي سيضعه دعاة اللا طائفية “الطفولية” في خانة الطائفية، ليس كلامي أو كلام المعارضين للنظام فحسب، بل يمكن للتثبّت منه العودة إلى واحد من أهم المراجع التي كُتبت حول نظام الأسد بقلم أحد أهم المحسوبين عليه، وهو كتاب “الأسد.. الصراع على الشرق الأوسط” لكاتبه باتريك سيل، والذي سمّى الأشياء بمسمياتها موضحاً الفرق الكبير بين ثقل الضباط العلويين وبين بقيّة القوى الهامشيّة، سيما في وقت الأزمات الكبرى التي تعرّض لها النظام..
المشكلة الأساسية مع اللا طائفيّة “الطفولية” تكمن في سعيها للتستّر على مشاكل الواقع الحالي، ولا ننكّر أنّ الأمر قد يتم بحسن نيّة من قبل من يرى أن بناء دولة المواطنة يمكن أن يتم من خلال تجاهل أزمات التاريخ العالقة.. ويحدث أمرٌ مشابه عند كثير من الناشطين العرب والكرد الذين يعتقدون أنّ الكلام عن مشكلة عربيّة-كرديّة هو ما قد يسبب الحساسية الإثنيّة، بينما الأحق أن نقول إنّ التستّر على المشكلة وعدم تسمية الأمور بمسمياتها هو ما جعل أزماتنا عالقة وفاعلة دوماً، كالجمر تحت الرماد..
اللا طائفيّة شرط أساسي لبناء مجتمع مواطنة يتساوى فيه الجميع أمام القانون في الحقوق والواجبات، لكنها، حين تصبح عائقاً أمام الاعتراف بوجود مشكلة طائفية عالقة، أو أمام تسمية الطائفيّين بأسمائهم، فإنّها تصبح لا طائفية إنكاريّة طفوليّة بامتياز.. وستكون هي ذاتها عقبة في طريق بناء مجتمع المواطنة..
كاتب سوري