مقالات رأي

عن التدخل العسكري الروسي في سوريا

dce7e4a8a3

يخطئ من يظن أن العلاقات الدولية شفافة يمكن تبيُّنها وفقاً لعدد قليل من المعايير، كمعيار المصلحة أو المنفعة ومعيار الصداقة أو العداوة ومعيار التنافس أو الصراع ومعيار الربح أو الخسارة ..، على أهمية هذه المعايير وإمكاناتها الإجرائية، التي لا يجوز تجاهلها. فالسياسات الخارجية لأي دولة خلاصة بالغة الكثافة والتعقيد عن أوضاعها الداخلية، الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، ومستوى تمدن المجتمع ومشاركة أفرادة، إناثاً وذكوراً، وفئاته الاجتماعية في الحياة العامة، لا كقوى منتجة للثروة المادية فقط، بل كذوات حرة ومستقلة كل منها مشروع تحقق كياني، في أفق الإنسانية أيضاً، ومدى عمق التعارضات الاجتماعية وقدرة المجتمع على حلها سلماً، وفقاً لطابع العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة، على الصعيدين المايكروي أو الصغري والماكروي أو الكلي، علاوة على نظام الحكم وبنية السلطة وأشكال ممارستها وآليات اشتغالها.

ولكن التحليل لا يتسق إلا إذا وضعت هذه العناصر أو العوامل جميعاً في سياقها التاريخي، الروسي والعالمي؛ فقد شهدت روسيا، في خلال قرن واحد انتقالاً من القيصرية، التي كانت توصف بأنها “قلعة الاستبداد” إلى الاشتراكية البلشفية (الماركسية اللينينية)، ثم إلى التوتاليتارية، (الستالينية) ثم إلى الرأسمالية الليبرالية الجديدة المافياوية. وكان كل واحد من هذه الانتقالات يجبُّ ما قبله أو ينقطع عنه، على الصعيدين الأيديولوجي والسياسي بوجه خاص. فثمة انقطاعات تاريخية واستمرار تاريخي يصعب الجزم في غلبة أي منهما أو في مدى عمقه. ولكن، هناك من الوقائع ما يمكن أن يكون ذا دلالة عميقة في تحليل بنية النظام الروسي وبنية السلطة، من أهمها موقف اتحاد الكتاب الروس من الرئيس السوري بشار الأسد، وموقف البرلمان الروسي وموقف الكنيسة الأرثوذكسية من التدخل العسكري في سوريا، في ضوء موقف الحكومة الروسية الباكر من المسألة السورية.

هذه الوقائع لا تدل في نظرنا على انسجام المراجع الاجتماعية (البرلمان) والثقافية (اتحاد الكتاب) والأيديولوجية (الكنيسة) والسياسية (الحكومة) والعسكرية (قيادة الجيش والمخابرات) من المسألة السورية بقدر ما تدل على بنية النظام الروسي وبنية السلطة، وتلقي بعض الضوء على مدى الانقطاع التاريخي أو الاستمرار التاريخي، مما يجعلنا نفترض أن فكرة الحرب الباردة لم تمت في الرؤية الإستراتيجية الروسية، وهي رؤية غدت مركبة من عناصر قيصرية وبلشفية وتوتاليتارية، من أبرز عناصرها اقتران الديمقراطية بالرأسمالية “الغربية”، وأحقية الاتحاد الروسي، وريث الاتحاد السوفييتي وريث القيصرية، في تشكيل خريطة العالم الاقتصادية والسياسية. ولم تمت كذلك عداوة “الشرق” لــ “الغرب” والسعي إلى وضع حد لتفوقه وغطرسته، في الحدود الدنيا. في هذه النقطة تلتقي الرؤية الإستراتيجية الروسية مع الرؤية “الإسلامية” الأكثر أصولية وتطرفاً، ومع الرؤية القومية العربية (البعثية) الأكثر أصولية وتطرفاً. غير أن المفارقة تكمن في توجس الحكومة الروسية من التطرف الإسلامي من جهة، وتحالفها مع نسخته الشيعية، الإيرانية واللبنانية (حزب الله) وغيرهما، ومصادر توليده وإمداده السنية في الوقت نفسه، أي إنها تتوسل بالتطرف الإسلامي خارج حدودها، وتحاربه داخل حدودها، شأنها في ذلك شأن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الاتحاد الأوروبي، وشأن النظام السوري نفسه. ما يعني أن الحلف الذي تعمل على إنشائه لمحاربة “داعش”، مقابل الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، يتعدى الهدفَ المعلنَ من إنشائه، فما دام “داعش” حاجة موضوعية للسياسات التدخلية، الروسية منها والغربية والعربية والإسرائيلية. فإن للأهداف المعلنة غالباً وظيفة تبريرية.

لقد تبنت الحكومة الروسية موقف النظام السوري وسلطته الشموليه تبنياً تاماً، منذ انطلاقة الحراك الشعبي السلمي، ربيع 2011، بل يمكن أن نفترض أن موقفها يزيد على التبني والموافقة ويتعداهما إلى المشاركة في التوجيه والقرار، بحكم حاجة النظام السوري إلى المساعدات العسكرية والفنية والاقتصادية والمالية الروسية. فالسياسة الروسية ليست تابعة للسياسة السورية، بل العكس هو الصحيح، بحكم علاقات القوة التي تحكم السياسات الدولية، وبحكم حاجة النظام السوري، التي تجبره على الإذعان لشروط حلفائه. أي إن الحكومة الروسية كانت ولا تزال شريكاً وحليفاً وعوناً للحكومة السورية، وهذا ما لا تنكره دمشق، وقد اعترفت به موسكو صراحة.

يمكن وصف السياسة الروسية وموقفها من المسألة السورية بقصر النظر، لأنها قصرت رهانها على النظام السوري والسلطة السورية والرئيس السوري، لا على سوريا والشعب السوري. ولكن مراجعة السياسات الروسية منذ قرن من الزمن حتى اليوم تجعل هذا الوصف من قبيل الحكم الأيديولوجي، لأن السياسات الروسية لم تكن تعنى بقضايا الشعوب وتطلعاتها، حتى في المرحلة السوفييتية، وكانت خياراتها ورهاناتها مقصورة دوماً على الحكام، وهكذا سائر الدول والحكومات، فقد تحالف الحكومات السوفييتية مع عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي .. على الرغم من تنكيلهم بالشيوعيين واليساريين والوطنيين الديمقراطيين، أي بمن يفترض أنهم حلفاؤها الأقربون في أوساط الشعوب. وباعت للعرب عامة والفلسطينيين خاصة شعارات ثورية مناوئة للإمبريالية والصهيونية والعنصرية .. في حين كانت الدولة الثانية التي اعترفت بدولة إسرائيل، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، واعتبرت الحركة الصهيونية حركة تحرر وطني، وأقامت ولا تزال تقيم أفضل علاقات التعاون مع دولة إسرائيل، وها هي تنسق معها عسكرياً في إدارة الحرب في سوريا، والتنسيق العسكري غير ممكن من دون تنسيق سياسي.

لا نشك في أن الحكومة الروسية تعرف تفاصيل الأوضاع السورية معرفة دقيقة، من خلال سفارتها، وهي أكبر سفارة في المنطقة، ومن خلال خبرائها العسكريين والفنيين وقواتها البحرية وأصدقائها المبثوثين في الجسم السياسي والاقتصادي والعسكري السوري .. ومع ذلك عبرت في المنظمات الدولية عامة وفي مجلس الأمن خاصة عن سقوط أخلاقي مريع، بتجاهلها جميع الوقائع السورية ومعاناة السوريين، فلم تر في أكثرية الشعب السوري سوى إسلاميين متطرفين وإرهابيين وعصابات مسلحة. هذا حكم أخلاقي ولا شك، ولكنه مؤسس على توجس السياسة الروسية من الحركات الشعبية والتحولات الديمقراطية داخل الحدود الروسية وخارجها.

آن للفكر السياسي أن يفرق بين الحكومات والشعوب. الحكومة الروسية، كغيرها من الحكومات الشرقية والغربية والعربية والإسرئيبية كانت تقف دوماً في الصف المعادي للشعب السوري وغيره من الشعوب، وتتحالف مع المستبدين بهذه الشعوب وناهبي ثرواتها وقوة عملها.

To Top