مجلة طلعنا عالحرية

عن الأقليات والتطييف والثورة / علي العبد الله

ما فتئت قضية الأقليات في سوريا تثير جدلاً واسعًا بين القوى السياسية والاجتماعية في ضوء الثورة الشعبية والتغيير القادم، وهل سيكون في صالح تعميق التعايش الاجتماعي والاندماج الوطني أم سيكون بوابة لأزمات وصراعات دينية ومذهبية وقومية، وانعكاسه على هذه الأقليات وعلى مستقبلها، خاصة أن هناك من ينفخ في الرماد، كما يقال، مثل جبهة السلطة الاستبدادية التي تسعى إلى تضخيم الهواجس والمخاوف وتصب الزيت على النار بإثارة التوترات بين مكونات الشعب السوري على أمل التشكيك بالمستقبل الذي تبشر به الثورة، والتأثير على موقف الأقليات والقوى التي تدعي حمايتها من الثورة، أو جبهة بعض القوى الدولية التي تبحث عن موضع قدم في سوريا ما بعد نظام الأسد عبر بوابة حماية الأقليات من الأكثرية الصاعدة على خلفية الهواجس والمخاوف التي أطلقتها بعض الظواهر السلبية التي نبتت على سطح الثورة.

واقع الحال أن للقضية تاريخًا وأبعادًا مركبة ومتشابكة ومعقدة؛ فالعالم الإسلامي الذي تكونت فيه الشخصية السورية كان وما زال محكومًا بالثقافة الإسلامية بمكوناتها الثلاثة: العقيدة الدينية، الفقه الإسلامي، التجربة التاريخية، ومع أن هذه المكونات تتطابق في مرحلة وتتمايز وتتباين إلى حد التناقض في أخرى، فقد ظلت تتمتع لدى غالبية العرب المسلمين السنَّة بالقداسة باعتبارها الإسلام، إنها بالنسبة لهم كلٌّ موحد ومتجانس ومتسق، وهذا كرَّسها فكرة حافزة لاستجاباتهم وجعلها مقياسًا ثابتًا لسلوكهم ورد فعلهم على الأحداث والمتغيرات، أو بتعبير غراهام فولر “مقياسًا للعدالة والإنسانية والحكم الصالح ومحاربة الفساد” (الشرق الأوسط: 24/9/ 2001).

في هذا الفضاء وتحت هذا السقف طُرِحت اجتهادات، ونشأت مذاهب فقهية تحولت، مع مرور الوقت، إلى طوائف دينية، طائفة كبيرة، أهل السنّة والجماعة أو السنّة، وطوائف أصغر، ليست متساوية في الحجم: شيعة، علويين، دروز، إسماعيليين…. إلخ، ترتب على مواقفها من بعضها، ومن الأحداث، قيام أحزاب سياسية، بالمعنى الذي أخذته الكلمة في الحضارة الإسلامية أي الولاء لشخص أو فكرة، وانفجار صراعات عنيفة ودامية، عمَّقت الخلافات الفقهية/الطائفية، وكرست انقسامات أفقية وعمودية في الاجتماع الإسلامي، كل هذا أفرز قراءات مختلفة ومتناقضة لأحداث التاريخ وتداعياتها: روايات، وأحكام دينية وأخلاقية، مشاعر وعواطف متضاربة وأحقاد وعداوات، بقيت سارية في ثنايا التاريخ الإسلامي، يضاف إليها في كل جيل تفصيل جديد أو رواية جديدة مشوهة لحدث قديم. تراكمات متواترة بحيث غدا لدى كل منها رواية خاصة بها عن المذاهب والطوائف الأخرى تُشيطنها، وتجعلها في موقع الخارج على العقيدة، وأس الفساد والسبب المباشر لكل المشكلات والصراعات والأخطاء التي شهدها التاريخ الإسلامي، وأصبح كل مذهب منها أو طائفة أو جماعة صغيرة شخصًا اعتباريًّا يرى في ذاته معبِّرًا عن الإسلام مع أنه نشأ بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) بعقود، وأن التمذهب به ليس من أصول الدين أو العقيدة، ونال المذهب السنّي غلبةً كونه ظل المذهب الرسمي للإمبراطورية الإسلامية في الخلافتين الأموية والعباسية وغدا الأكثرية العددية ما جعله يعتبر نفسه الممثل الشرعي للإسلام، والمذاهب/الطوائف الأخرى خوارج عليه مع أنها لم تخرج على أصول العقيدة الإسلامية التي حددت بثلاثة أسس: الإلوهية، الرسالة، الميعاد/يوم الحساب أو القيامة، وان الاختلافات الأخرى اجتهادات قد تكون صحيحة أو خاطئة لكنها مشروعة.

مع انقطاع الفعل الإسلامي في التاريخ، وجمود الحضارة الإسلامية، ورسوخ قدم التخلف والانحطاط العقلي والثقافي والسياسي، بانتصار الحنابلة والأشاعرة والمتصوفة وسيادة رؤاهما الفكرية والسلوكية، وتآكل الإنجازات المادية والفكرية، وانكماش التطور الحضري، وعودة المجتمعات الإسلامية إلى حالة من البداوة والتريف، ناهيك عن الحروب الداخلية والخارجية وما نجم عنها من مظالم وخسائر وكوارث اجتماعية، وهزائم عسكرية، وغياب مشرع سياسي إسلامي، انتقلت الخلافات إلى عمق الاجتماع الإسلامي، وتسربت المواجهات والمناكفات حتى بلغت القاع الاجتماعي عبر تداول روايات تنطوي على اتهامات وتكفير وتخوين يتم تداولها تعكس حالة خصومة شديدة إن لم تكن عداوة، وزاد في تعقيد القضية تبني الخلفاء والسلاطين لمواقف بعض الفقهاء المتزمتين واستخدام قوة السلطة في البطش بأبناء المذاهب الصغيرة وملاحقتهم وهذا دفعهم إلى التكتل للدفاع والهرب إلى الجبال والصحارى البعيدة، وقد حوّلتهم المظالم والملاحقة والعزلة إلى كتل صماء متقوقعة تتلبس عقلية الحصار، متسترة ومتكتمة ومجهولة المواقف والطقوس، وهذا غذى السرديات المعادية بالروايات والتوهمات عن انحرافهم وجنوحهم وخروجهم على الإسلام والإفتاء باستتابتهم أو إقامة الحد عليهم، وهذا غذى مظلوميتهم وزاد في تقوقعهم وانعزالهم عن المجتمعات الأخرى.  

لم تكن العلاقة بين أبناء الأديان المختلفة في العالم الإسلامي، كما في بقية دول العالم، بأحسن حالاً من العلاقة بين أبناء المذاهب والطوائف الإسلامية فقد نسي أبناء هذه الأديان الأصل السماوي المشترك ودخلوا في حالة إنكار وتشكيك متبادلة، وتاهت تعاليم العقائد السمحة في ثنايا اجتهادات الفقه الإسلامي، وتعاليم الكنائس، والأحبار، وتلاشت محددات ثابتة لتنظيم العلاقة وضبط الاختلاف لصالح اعتبارات مصلحية، وانخرط أتباع الأديان السماوية في صراعات عقائدية وسياسية وحروب قاسية ومدمرة ترتب عليها عداء صريح تارة ومضمر أخرى، كرسه في المشرق العربي ما نجم عن اختلال التوازن السكاني الذي نجم عن انتشار الإسلام ودخول معظم سكانه فيه بعد أن كان يدين في معظمه بالديانة المسيحية.

مع ظهور الفكرة القومية وانتشارها، ونشوء الدول الوطنية، وبروز الأفكار الحديثة: العلمانية والاشتراكية وتبني أسس حديثة  للدولة، أسس دستورية وقانونية، زادت الأمور تعقيدًا، حيث تحمس المسيحيون للقومية كمدخل للمساواة مع الأغلبية الإسلامية، وتحمس أبناء المذاهب الإسلامية الصغيرة للقومية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية، والشيوعية كمدخل للتساوي في الحقوق والواجبات مع الأكثرية السنية، بينما لم تنظر الأكثرية السنية، لاعتبارات ثقافية ومصلحية، إلى هذه التحولات والتطورات بعين الرضا فقد رأت في تبنيها حطًّا من قدر الإسلام وخفضًا في مكانته، فالإسلام في نظرها متفوق ثقافيًّا وسياسيًّا، وهو أكبر من القوميات، والانتماء إليه يتجاوز الأوطان، فالأمة الإسلامية واحدة موحدة، تجلَّى هذا الموقف بوضوح بموقف السنة من قيام دولة لبنان الكبير، ناهيك عن شكها الفكري والاجتماعي بـالعلمانية والديمقراطية والشيوعية ورفضها لها.

Exit mobile version